حكاية العقد المفقود وصاحبه الموعود..الليلة ٢٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملك الصين لما قال: “لا بد من شنقكم”، فعند ذلك تقدم المباشر إلى ملك الصين، وقال:
“إن أذِنتَ لي حكيتُ لك حكايةً اتفقت لي في تلك المدة قبل أن أجد هذا الأحدب، وإن كانت أعجب من حديثه، فتهب لنا أرواحنا.”
فقال الملك: “هات ما عندك.”
حكاية المباشر
فقال: اعلم أني كنتُ تلك الليلة الماضية عند جماعة عملوا ختْمة، وجمعوا الفقهاء، فلما قرأ المقرئون وفرغوا، مدّوا السماط، فكان مما قدموه زَرْباجة، فتقدمنا لنأكل منها، فتأخر واحد منا وامتنع من الأكل، فحلفنا عليه، فأقسم أنه لا يأكل منها، فشددنا عليه، فقال:
“لا تشددوا عليّ، فقد كفاني ما جرى لي من أكلها”، ثم أنشد هذا البيت:
رَاعِ الصَّدِيقَ فَإِنْ لَمْ تَرْعَ خَاطِرَهُ *** فَلَنْ تُعِينَ عَلَى إِرْجَاعِهِ الحِيَلُ
فلما فرغنا قلنا له: بالله ما سبب امتناعك عن الأكل من هذه الزرباجة؟ فقال:
“لأني لا آكل منها إلا إن غسلتُ يدي أربعين مرة بالأُشنان، وأربعين مرة بالسعد، وأربعين مرة بالصابون، فمجموعها مائة وعشرون مرة.”
فعند ذلك أمر صاحب الدعوة غلمانه، فأتوا بالماء وما طلبه، فغسل يديه كما ذكر، ثم تقدم وهو متكره، وجلس ومد يده وهو مثل الخائف، ووضع يده في الزرباجة، وصار يأكل وهو متغصب، ونحن نتعجب منه غاية العجب، ويده ترتعد، فنصب إبهام يده فإذا هو مقطوع، وهو يأكل بأربعة أصابع.
فقلنا له: بالله عليك، ما لإبهامك هكذا؟ أهو خلقة الله أم أصابه حادث؟
فقال: “يا إخواني، ليس هذا الإبهام وحده، ولكن الأخرى كذلك، ورجلاي الاثنتان، ولكن انظروا.”
ثم كشف إبهام يده الأخرى، فوجدناها مثل اليمنى، وكذلك رجلاه بلا إبهامين.
فلما رأيناه كذلك ازددنا عجبًا، وقلنا له: “ما بقي لنا صبر على حديثك، فأخبرنا بسبب قطع إبهامي يديك وإبهامي رجليك، وسبب غسلك يديك مائةً وعشرين مرة.”
فقال:
“اعلموا أن والدي كان تاجرًا من كبار التجار، وكان أكبر تجار مدينة بغداد في أيام الخليفة هارون الرشيد، وكان مولعًا بشرب الخمر وسماع العود.
فلما مات لم يترك شيئًا، فجهزته، وقد عملت له ختمات، وحزنت عليه أيامًا وليالي. ثم فتحت دكانه، فلم أجد فيه إلا قليلًا، ووجدت عليه ديونًا كثيرة، فصبّرت أصحاب الديون، وطيبت خواطرهم، وصرت أبيع وأشتري من الجمعة إلى الجمعة، وأعطي أصحاب الديون، ولا زلت على هذه الحالة مدة حتى وفيت الديون وزدت على رأس مالي.
وبينما أنا جالس يومًا من الأيام، إذا بي رأيت صبية لم ترَ عيني أحسن منها، عليها حُلَل فاخرة، وهي راكبة بغلة، وقدامها عبد ووراءها عبد، فأوقفت البغلة على رأس السوق، ودخلت ومعها خادم، فقال:
“يا سيدتي، اخرجي ولا تعلمي أحدًا، فتطلقي فينا النار.”
ثم حجبها الخادم، فلما نظرت إلى دكاكين التجار لم تجد أفخر من دكاني، فلما وصلت إلى جهتي والخادم خلفها، جلست على دكاني وسلمت عليّ، فما سمعت أحسن من حديثها، ولا أعذب من كلامها، ثم كشفت عن وجهها، فنظرتها نظرةً أتبعتها بحسرة، وتعلق قلبي بمحبتها، وجعلت أكرر النظر إلى وجهها، وأنشدت هذين البيتين:
قُلْ لِلْمَلِيحَةِ فِي الخِمَارِ الفَاخِتِ *** المَوْتُ حَقًّا مِنْ عَذَابِكِ رَاحَتِي
جُودِي إِلَيَّ بِزَوْرَةٍ أُحْيَا بِهَا *** هَا قَدْ مَدَدْتُ إِلَى نَوَالِكِ رَاحَتِي
سِوَاكُمُ
فُؤَادِي لَا يُحِبُّ
فلما سمعت إنشادَهما أجابتني بهذه الأبيات:
عَدِمْتُ فُؤَادِي فِي الْهَوَى إِنْ سَلَاكُمُ
فَإِنْ نَظَرَتْ عَيْنِي إِلَى غَيْرِ حُسْنِكُمُ
فَلَا سَرَّهَا بَعْدَ الْبِعَادِ لِقَاكُمُ
حَلَفْتُ يَمِينًا لَسْتُ أَسْلُو هَوَاكُمُ
وَقَلْبِي حَزِينٌ مُغْرَمٌ بِهَوَاكُمُ
سَقَانِي الْهَوَى كَأْسًا مِنَ الْحُبِّ صَافِيًا
فَيَا لَيْتَهُ لَمَّا سَقَانِي سَقَاكُمُ
خُذُوا رَمَقِي حَيْثُ اسْتَقَرَّتْ بِكُم نَوًى
وَأَيْنَ حَلَلْتُمْ فَادْفِنُونِي حِذَاكُمُ
وَإِنْ تَذْكُرُوا اسْمِي عِندَ قَبْرِي يُجِيبُكُمُ
أَنِينُ عِظَامِي عِندَ رَفْعِ نِدَاكُمُ
فَلَوْ قِيلَ لِي مَاذَا عَلَى اللهِ تَشْتَهِي
لَقُلْتُ رِضَا الرَّحْمَنِ ثُمَّ رِضَاكُمُ
فلما فرغت من شعرها قالت: يا فتى، أَعِندَك تفاصيلُ مَلاحٍ؟
فقلت: يا سيدتي، مملوكُكِ فقير، ولكن اصبري حتى تفتحَ التجارُ دكاكينَهم، وأجيءَ لك بما تريدينه.
ثم تحدثتُ أنا وإياها، وأنا غارقٌ في بحر محبتها، تائهٌ في عشقها، حتى فتحتِ التجارُ دكاكينَهم، فقمتُ وأخذتُ لها جميع ما طلبتْه، وكان ثمنُ ذلك خمسةَ آلافِ درهم، وناولْتُ الخادمَ جميعَ ذلك، فأخذه الخادم وذهبا إلى خارج السوق، فقدّموا لها البغلة، فركبتْ ولم تذكر لي من أين هي، واستحييتُ أن أذكر لها ذلك، والتزمتُ الثمنَ للتجار، وتكلّفتُ خمسةَ آلافِ درهم، وجئتُ البيتَ وأنا سكران من محبتها.
فقدّموا لي العشاء، فأكلتُ لقمةً، وتذكرتُ حُسنَها وجمالَها، فأشغلني عن الأكل، وأردتُ أن أنام فلم يَجئْني نوم.
ولم أزل على هذه الحالة أسبوعًا، وطالبتْني التجارُ بأموالهم، فصبّرتُهم أسبوعًا آخر.
فبعد الأسبوع أقبلتْ وهي راكبةٌ على البغلة ومعها خادمٌ وعبدان، فسلّمت عليّ وقالت: يا سيدي، أبطأنا عليك بثمن القماش، فهَاتِ الصيرفيَّ واقبضِ الثمن. فجاء الصيرفيُّ وأخرج له الطوامَّ الثمنَ فقبضتُه، وشرعتُ أتحدثُ أنا وإياها إلى أن عَمُرَ السوقُ وفتحتِ التجارُ، فقالت: خذ لي كذا وكذا.
فأخذتُ لها من التجار ما أرادت، وأخذته ومضتْ ولم تخاطبني في ثمن. فلما مضتْ ندمتُ على ذلك، وكنتُ أخذتُ الذي طلبتْه بألف دينار.
فلما غابت عن عيني قلت في نفسي: أيُّ شيءٍ هذه المحبة؟ أعطتني خمسة آلاف درهم وأخذتْ شيئًا بألف دينار! فخِفتُ الإفلاسَ وضياعَ مالِ الناس، وقلت: إن التجار لم يعرفوا إلا أنا، فما كانت هذه المرأة إلا محتالَةً خدعتني بحُسنها وجمالها، ورأتْني صغيرًا فضحكت عليَّ، ولم أسألها عن منزلها.
ولم أزل في وسواس، وطالت غيبتها أكثر من شهر، فطالبني التجارُ وشدّدوا عليَّ، فعرضتُ عقاري للبيع وأشرفتُ على الهلاك. ثم قعدتُ وأنا متفكر، فلم أشعر إلا وهي نازلة على باب السوق، ودخلت عليَّ.
فلما رأيتها زالت الفكرة، ونسيتُ ما كنتُ فيه، وأقبلت تحدثني بحديثها الحسن، ثم قالت: هات الميزان وزن مالك. فأعطتني ثمنَ ما أخذتْه بزيادة، ثم انبسطتْ معي في الكلام، فكِدتُ أن أموت فرحًا وسرورًا.
ثم قالت لي: هل أنت لك زوجة؟ فقلت: لا، إني لا أعرف امرأة. ثم بكيتُ. فقالت لي: ما لك تبكي؟ فقلت: من شيءٍ خطر ببالي.
ثم إني أخذتُ بعض الدنانير وأعطيتُها للخادم، وسألتُه أن يتوسط في الأمر، فضحك وقال: هي عاشقةٌ لك أكثرَ منك، وما لها بالقماش حاجة، وإنما هو لأجل محبتها لك، فخاطبْها بما تريد، فإنها لا تخالفك فيما تقول.
فرأتْني وأنا أُعطي الخادم الدنانير، فرجعت وجلست، ثم قلتُ لها: تَصَدَّقي على مملوكٍ واسمحي له فيما يقول. ثم حدّثتُها بما في خاطري، فأعجبها ذلك وأجابتني وقالت: هذا الخادم يأتي برسالتي، واعمل أنت بما يقوله لك الخادم.
ثم قامت ومضت، فقمتُ وسلّمتُ التجار أموالَهم، وحصل لهم الربح إلا أنا، فإنه حين ذهبت حصل لي الندم من انقطاع خبرها عني، ولم أنم طول ليلتي.
فما كان إلا أيامٌ قلائل، وجاءني خادمُها، فأكرمتُه وسألتُه عنها، فقال: إنها مريضة.
فقلت للخادم: اشرح لي أمرَها.
قال: إن هذه الصبية ربّتها السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد، وهي من جواريها، وقد اشتهت على سيدتها الخروجَ والدخول، فأذنتْ لها في ذلك، فصارت تدخل وتخرج حتى صارت قهرمانة، ثم إنها حدّثت بك سيدتَها، وسألتها أن تُزَوِّجَها بك، فقالت سيدتُها: لا أفعل حتى أنظر هذا الشاب، فإن كان يشتهيِكِ زوّجتُكِ به.
ونحن نريد في هذه الساعة أن تُدخَلَ بك الدار، فإن دخلتَ ولم يشعر بك أحد، وصلتْ إلى تزويجك إياها، وإن انكشف أمرك قُطعتْ رقبتك، فماذا تقول؟
فقلت: نعم، أروح معك وأصبر على الأمر الذي حدثتني به.
فقال لي الخادم: إذا كانت هذه الليلة، فامضِ إلى المسجد الذي عند السَّحَر رأيت الخادمين قد أقبلا في زورق، ومعهما صناديق فارغة، فأدخلاها في المسجد وانصرفا، وتأخر واحدٌ منهما، فتأملته، فإذا هو الذي كان واسطة بيني وبينها. وبعد ساعةٍ صعدت إلينا الجارية صاحبتي، فلما أقبلت قمت إليها وعانقتها، فقبَّلتني وبكت، وتحدثنا ساعة، فأخذتني ووضعتني في صندوق وأغلقتْه عليَّ، ولم أشعر إلا وأنا في دار الخليفة، وجاء إليَّ بجزءٍ كبيرٍ من الأمتعة يساوي خمسين ألف درهم.
ثم رأيت عشرين جاريةً أخرى، وهنَّ نُهُدٌ أبكار، وبينهنَّ الست زبيدة، وهي لم تقدر على المشي مما عليها من الحُليّ والحُلَل. فلما أقبلت تفرقت الجواري من حواليها، فأتيت إليها وقبَّلت الأرض بين يديها، فأشارت إليَّ بالجلوس، فجلست بين يديها، ثم شرعت تسألني عن حالي وعن نسبي، فأجبتها عن كل ما سألتني عنه، ففرحت وقالت: “والله ما خابت تربيتنا في هذه الجارية.”
ثم قالت لي: “اعلم أن هذه الجارية عندنا بمنزلة ولد الصلب، وهي وديعة الله عندك.”
فقبَّلت الأرض قدامها، فرضيت بزواجي إياها، ثم أمرتني أن أقيم عندهم عشرة أيام. فأقمت عندهم هذه المدة وأنا لا أدري من هي الجارية، إلا أن بعض الوصايف كانت تأتيني بالغداء والعشاء للخدمة.
وبعد هذه المدة استأذنت السيدة زبيدة زوجها أمير المؤمنين في زواج جاريتها، فأذن لها، وأمر لها بعشرة آلاف دينار. فأرسلت السيدة زبيدة إلى القاضي والشهود، وكتبوا كتابي عليها، وبعد ذلك صنعوا الحلويات والأطعمة الفاخرة، وفرقوها على سائر البيوت، ومكثوا على هذه الحال عشرة أيام أخرى.
وبعد العشرين يومًا أدخلوا الجارية الحمام لأجل الدخول بها، ثم إنهم قدَّموا سفرة فيها طعام، من جملته “زرباجة” محشوة بالسكر، وعليها ماء وردٍ ممسَّك، وفيها أصناف الدجاج المحمَّر وغير ذلك من سائر الألوان مما يدهش العقول.
فوالله حين حضرت المائدة، ما أمهلت نفسي حتى نزلت على الزرباجة وأكلت منها بحسب الكفاية، ومسحت يدي ونسيت أن أغسلها. ومكثت جالسًا إلى أن دخل الظلام وأوقدت الشموع، وأقبلت المغنيات بالدفوف، ولم يزالوا يجلون العروسة وينقطون بالذهب حتى طافت القصر كله.
وبعد ذلك أقبلوا بها عليَّ، ونزعوا ما عليها من الملبوس. فلما خلوت بها في الفراش وعانقتها، وأنا لم أصدق بوصالها، شمت في يدي رائحة الزرباجة، فلما شمَّت الرائحة صرخت صرخةً عظيمة، فاجتمعت لها الجواري من كل جانب، فارتجفتُ ولم أعلم ما الخبر.
فقالت الجواري: “ما لكِ يا أختَنا؟” فقالت لهن: “أخرجوا عني هذا المجنون، فأنا أحسب أنه عاقل!”
فقلت لها: “وما الذي ظهر لكِ من جنوني؟”
فقالت: “يا مجنون، لأي شيء أكلتَ من الزرباجة ولم تغسل يدك؟ فوالله لا أقبلك على عدم عقلك وسوء فعلك!”
ثم تناولت من جانبها سوطًا، ونزلت به على ظهري ثم على مقعدي حتى غبت عن الوجود من كثرة الضرب، ثم إنها قالت للجواري: “خذوه وامضوا به إلى متولي المدينة ليقطع يده التي أكل بها الزرباجة ولم يغسلها!”
فلما سمعت ذلك قلت: “لا حول ولا قوة إلا بالله! أتُقطع يدي من أجل أكل الزرباجة وعدم غسلي لها؟”
فدخلت عليها الجواري وقلن لها: “يا أختَنا، لا تؤاخذيه بفعله هذه المرة.”
فقالت: “والله لا بد أن أقطع شيئًا من أطرافه!”
ثم راحت وغابت عني عشرة أيام، ولم أرها إلا بعد العشرة. أقبلت عليَّ وقالت لي: “يا أسود الوجه، أنا لا أصلح لك! فكيف تأكل الزرباجة ولم تغسل يدك؟”
ثم صاحت على الجواري، فكتفوني، وأخذت موسى ماضيًا، وقطعت إبهام يدي وإبهام رجلي كما ترون يا جماعة! فغُشي عليَّ، ثم ذرَّت عليَّ الذرور فانقطع الدم.
وقلت في نفسي: “لا آكل الزرباجة ما بقيت حتى أغسل يدي أربعين مرة بالأشنان، وأربعين مرة بالسعد، وأربعين مرة بالصابون!”
فأخذت عليَّ ميثاقًا أني لا آكل الزرباجة حتى أغسل يدي كما ذكرت لكم. فلما جئتم بهذه الزرباجة تغيَّر لوني، وقلت في نفسي: “هذا سبب قطع إبهامي يدي ورجلي!”
فلما غصبتم عليَّ قلت: لا بد أن أوفي بما حلفت.
فقلتُ له والجماعة حاضرون: ما حصل لك بعد ذلك؟
قال: فلما حلفتُ لها طاب قلبها ونِمتُ وإياها، وأقمنا مدةً على هذا الحال، وبعد تلك المدة قالت: إن أهل دار الخلافة لم يعلموا بما حصل بيني وبينك فيها، وما دخلها أجنبي غيرك، وما دخلتُ فيها إلا بعناية السيدة زبيدة. ثم أعطتني خمسين ألف دينار، وقالت: خذ هذه الدنانير، واخرج واشترِ لنا بها دارًا فسيحة.
فخرجتُ واشتريتُ دارًا مليحة فسيحة، ونقلتُ جميع ما عندها من النِّعم، وما ادَّخرتُه من الأموال والقماش والتحف إلى هذه الدار التي اشتريتها، فهذا سبب قطع إبهامي.
فأكلنا وانصرفنا، وبعد ذلك جرى لي مع الأحدب ما جرى، وهذا جميع حديثي، والسلام.
فقال الملك: ما هذا بأعذب من حديث الأحدب، بل حديث الأحدب أعذب من ذلك، ولا بد من صلبكم جميعًا.
ثم إن اليهودي تقدَّم وقبَّل الأرض، وقال: يا ملك الزمان، أنا أحدِّثك بحديث أعجب من حديث الأحدب.
فقال له ملك الصين: هاتِ ما عندك.
حكاية الطبيب اليهودي
فقال: أعجب ما جرى لي في زمن شبابي أني كنتُ في دمشق الشام، وتعلمتُ صناعة الطب فعملتُ فيها. فبينما أنا أعمل في صناعتي يومًا من الأيام، إذا أتاني مملوك من بيت الصاحب بدمشق، فخرجتُ له وتوجَّهتُ معه إلى منزل الصاحب.
فدخلتُ، فرأيتُ في صدر الإيوان سريرًا من المرمر بصفائح الذهب، وعليه آدمي مريض راقد، وهو شاب لم يُرَ أحسن منه في زمانه.
فقعدتُ عند رأسه ودعوتُ له بالشفاء، فأشار إليَّ بعينه، فقلت له: يا سيدي، ناولني يدك.
فأخرج إليَّ يده اليسرى؛ فتعجبتُ من ذلك، وقلتُ في نفسي: يا لله العجب! إن هذا الشاب مليح، ومن بيت كبير، وليس عنده أدب، إن هذا هو العجب!
ثم جسستُ مفاصله وكتبتُ له ورقةً، ومكثتُ أترَدَّد عليه مدة عشرة أيام، حتى تعافى ودخل الحمام واغتسل وخرج، فخلع عليَّ الصاحب خلعة مليحة، وجعلني مباشرًا عنده في المارستان الذي بدمشق.
فلما دخلتُ معه الحمام، وقد أخلَوه لنا من جميع الناس، ودخل الخادم بالثياب وأخذ ثيابه التي كانت عليه من داخل الحمام بعد أن تجرَّد، رأيتُ بيده اليمنى قطعًا صعبًا.
فلما رأيتُه أخذتُ أتعجب وحزنتُ عليه، ونظرتُ إلى جسده فوجدتُ عليه آثار ضرب مقارع، فصرتُ أتعجب من أجل ذلك.
فنظر إليَّ الشاب وقال لي: يا حكيم الزمان، لا تعجب من أمري، فسوف أُحدثك بحديثي حين تخرج من الحمام.
فلما خرجنا من الحمام ووصلتُ إلى الدار، وأكلنا الطعام واسترحنا، قال الشاب: هل لك أن تتفرج في الغرفة؟
فقلتُ: نعم.
فأمر العبيد أن يطلعوا الفراش إلى فوق، وأمرهم أن يشووا خروفًا، وأن يأتوا إلينا بفواكه. ففعل العبيد ما أمرهم به، وأتوا بالفواكه فأكلنا، وأكل هو بيده الشمال، فقلتُ له: حدثني بحديثك.
فقال لي: يا حكيم الزمان، اسمع حكاية ما جرى لي، اعلم أني من أولاد الموصل، وكان لي والد قد توفي أبوه، وخلّف عشرة أولاد ذكور، من جملتهم والدي، وكان أكبرهم. فكبروا كلهم وتزوجوا، ورُزق والدي بي، وأما إخوته التسعة فلم يُرزقوا بأولاد.
فكبرتُ أنا ونشأتُ بين أعمامي وهم فرحون بي فرحًا شديدًا. فلما كبرتُ وبلغتُ مبلغ الرجال، وكنتُ ذات يوم مع والدي في جامع الموصل، وكان اليوم يوم جمعة، فصلينا الجمعة وخرج الناس جميعًا، وأما والدي وأعمامي فإنهم قعدوا يتحدثون في عجائب البلاد وغرائب المدن، إلى أن ذكروا مصر.
فقال بعض أعمامي: إن المسافرين يقولون ما على وجه الأرض أحسن من مصر ونيلها، ولقد أحسن من قال فيها وفي نيلها هذين البيتين:
باللهِ قُلْ للنِّيلِ عني إنني
لم أَشفِ من ماء الفرات غليلا
يا قلبُ كم خلّفتَ ثم بثينةً
وأظنُّ صبرَك أن يكون جميلا
ثم إنهم أخذوا يصفون مصر ونيلها، فلما فرغوا من كلامهم، وسمعتُ أنا هذه الأوصاف التي في مصر، صار خاطري مشغولًا بها. ثم انصرفوا وتوجَّه كل واحدٍ منهم إلى منزله، فبتُّ تلك الليلة لم يأتني نوم من شغفي بها، ولم يطب لي أكلٌ ولا شرب.
فلما كان بعد أيام قلائل، تجهَّز أعمامي إلى مصر، فبكيت على والدي لأجل الذهاب معهم، حتى جهَّز لي متجرًا، ومضيت معهم، وقال لهم: «لا تدعوه يدخل مصر، بل اتركوه في دمشق ليبيع متجره فيها».
ثم سافرنا وودعتُ والدي، وخرجنا من الموصل، وما زلنا مسافرين حتى وصلنا إلى حلب، فأقمنا بها أيامًا، ثم سافرنا حتى وصلنا إلى دمشق، فرأينا مدينة ذات أشجارٍ وأنهارٍ وأثمارٍ وطيورٍ كأنها جنة، فيها من كل فاكهة، فنزلنا في بعض الخانات، واستمر بها أعمامي حتى باعوا واشتروا، وباعوا بضاعتي فربح الدرهم خمسة دراهم، ففرحت بالربح.
ثم تركني أعمامي وتوجَّهوا إلى مصر، فمكثت بعدهم وسكنتُ في قاعةٍ مليحةِ البنيان يعجز عن وصفها اللسان، أجرتها كل شهر ديناران، فصرت أتلذذ بالمآكل والمشارب، حتى نفد المال الذي كان معي.
فبينما أنا قاعدٌ على باب القاعة يومًا من الأيام، وإذا بصبيةٍ أقبلت عليَّ، وهي لابسة أفخر الملابس، ما رأت عيني أفخر منها، فعزمت عليها فما قصَّرت، بل صارت داخل الباب، فلما دخلت ظفرت بها وفرحت بدخولها، فردَّت الباب عليَّ وعليها، وكشفت عن وجهها وقلعت إزارها، فوجدتها بديعة الجمال، فتمكَّن حبها من قلبي، فقمت وجئت بسفرةٍ من أطيب المأكول والفواكه وما يحتاج إليه المقام، فأكلنا ولعبنا، وبعد اللعب شربنا حتى سكرنا، ثم نمتُ معها في أطيب ليلةٍ إلى الصباح.
وبعد ذلك أعطيتها عشرة دنانير، فحلفت أنها لا تأخذ الدنانير مني، ثم قالت: «يا حبيبي، انتظرني بعد ثلاثة أيام وقت المغرب أكون عندك، وهيِّئ لنا بهذه الدنانير مثل هذا»، وأعطتني هي عشرة دنانير، وودعتني وانصرفت، فأخذتُ عقدي معها.
فلما مضت الأيام الثلاثة، أتت وعليها من المزرّكش والحُليّ والحُلل أعظم مما كان عليها أولًا، وكنت قد هيأتُ لها ما يليق بالمقام قبل أن تحضر، ثم أكلنا وشربنا ونمنا مثل العادة إلى الصباح، ثم أعطتني عشرة دنانير، ووعدتني بعد ثلاثة أيام أنها تحضر عندي، فتهيأتُ لها بما يليق بالمقام.
وبعد ثلاثة أيام حضرت في قماشٍ أعظم من الأول والثاني، ثم قالت لي: «يا سيدي، هل أنا مليحة؟» فقلت: «إي والله». فقالت: «هل تأذن لي أن أجيء معي بصبيةٍ أحسن مني وأصغر سنًا مني، حتى تلعب معنا ونضحك وإياها؟ فإنها سألتني أن تخرج معي وتبيت معنا لنضحك وإياها». ثم أعطتني عشرين دينارًا، وقالت لي: «زِد لنا المقام لأجل الصبية التي تأتي معي». ثم ودعتني وانصرفت.
فلما كان اليوم الرابع، جهزتُ لها ما يليق بالمقام على العادة، فلما كان بعد المغرب، وإذا بها قد أتت ومعها واحدة ملفوفة بإزار، فدخلتا وجلستا، ففرحتُ وأوقدتُ الشموع، واستقبلتاني بالفرح والسرور، فقامتَا ونزعتا ما عليهما من القماش، وكشفت الصبية الجديدة عن وجهها، فرأيتها كالبدر في تمامه، فلم أرَ أحسن منها، فقمت وقدمت لهما الأكل والشرب، فأكلنا وشربنا، وصرت أقبل الصبية الجديدة، وأملأ لها القدح وأشرب معها، فغارت الصبية الأولى في الباطن، ثم قالت: «بالله، إن هذه الصبية مليحة، أما هي أظرف مني؟» قلت: «إي والله». قالت: «خاطري أن تنام معها». قلت: «على الرأس والعين».
ثم قامت وفرشت لنا، فقمت ونمت مع الصبية الجديدة إلى وقت الصبح، فلما أصبحت وجدت يدي ملطخة بدم، ففتحت عيني فوجدت الشمس قد طلعت، فنبهت الصبية، فتدحرج رأسها عن بدنها، فظننت أنها فعلت ذلك من غيرتها منها.
ففكرت ساعةً، ثم قمت وقلعت ثيابي، وحفرت في القاعة، ووضعت الصبية ورددت عليها التراب، وأعدت الرخام كما كان، ثم لبست وأخذت بقية مالي وخرجت، وجئت إلى صاحب القاعة ودفعْت له أجرة سنة، وقلت له: «أنا مسافر إلى أعمامي بمصر». ثم سافرت إلى مصر واجتمعت بأعمامي، ففرحوا بي، ووجدتُهم قد فرغوا من بيع متجرهم، ثم قالوا لي: «ما سبب مجيئك؟» فقلت لهم: «اشتقت إليكم وخفت ألّا يبقى معي شيء من مالي».
فأقمت عندهم سنةً وأنا أتفرج على مصر ونيلها، ووضعت يدي في بقية مالي وصرْت أصرف منه وآكل وأشرب حتى قرب سفر أعمامي، فهربت منهم. فقالوا: «لعله سبقنا ورجع إلى دمشق». فسافروا، وخرجت أنا فأقمت بمصر ثلاث سنين، وصرْت أصرف حتى لم يبق معي من المال شيء، وأنا في كل سنة أرسل إلى صاحب القاعة أجرتها.
وبعد الثلاث سنين ضاق صدري ولم يبق معي إلا أجرة السنة فقط، فسافرت حتى وصلت إلى دمشق، ونزلت في القاعة، ففرح بي صاحبها، فدخلت القاعة ومسحتها من دم الصبية المذبوحة، ورفعتُ المخدة فوجدتُ تحتها العقد الذي كان في عنق تلك الصبية، فأخذته وتأملته وبكيت ساعة، ثم أقمت يومين، وفي اليوم الثالث دخلت الحمام وغيرت أثوابي، وأنا ما معي شيء من الدراهم. فجئتُ يومًا إلى السوق، فوسوس لي الشيطان لأجل إنفاذ القدر، فأخذت العقد الجوهري وتوجهت به إلى السوق، وناولته للدلال، فقام إليَّ وأجلسني بجانبه، وصبر حتى عُمِر السوق. وأخذ ذلك الدلال ونادى عليه خفية وأنا لا أعلم، فإذا بالعقد مثمن بلغ ثمنه ألفي دينار.
فجاءني الدلال وقال لي: إن هذا العقد نحاس مصنوع بصنعة الإفرنج، وقد وصل ثمنه إلى ألف درهم. فقلت له: نعم، هذا كنا صنعناه لواحدة نضحك عليها به، وورثته زوجتي فأردنا بيعه، فارْحَلْ واقبض الألف درهم.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.