قصص

حكاية الملك والشاب المسحور: من روائع ألف ليلة وليلة..الليلة ٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما تكلَّم السمك، قلبت الصبية الطاجن بالقضيب، وخرجت من الموضع الذي جاءت منه، والتحم الحائط. فعند ذلك قام الوزير وقال: هذا أمر لا يمكن إخفاؤه عن الملك. ثم إنه تقدَّم إلى الملك وأخبره بما جرى قدامه، فقال: لا بد أن أنظر بعيني. فأرسل إلى الصياد، وأمره أن يأتي بأربع سمكات مثل الأولى، وأمهله ثلاثة أيام. فذهب الصياد إلى البركة، وأتاه بالسمك في الحال، فأمر الملك أن يعطوه أربعمائة دينار. ثم التفت الملك إلى الوزير وقال له: سوِّ أنت السمكَ ها هنا قدامي. فقال الوزير: سمعًا وطاعة. فأحضر الطاجن، ورمى فيه السمك بعد أن نظَّفه، ثم قلَبه، وإذا بالحائط قد انشقَّ وخرج منها عبد أسود كأنه ثور من الثيران، أو من قوم عاد، وفي يده فرع من شجرة خضراء، وقال بكلام فصيح مزعج:

يا سمك يا سمك، هل أنت على العهد القديم مقيم؟
فرفع السمك رأسه من الطاجن وقال: نعم، نعم. وأنشد هذا البيت:

إنْ عُدتَ عُدنا وإنْ وافيتَ وافينا وإنْ هجرتَ فإنّا قد تكافينا

ثم أقبل العبد على الطاجن، وقلبه بالفرع إلى أن صار فحمًا أسود، ثم ذهب العبد من حيث أتى. فلما غاب العبد عن أعينهم قال الملك: هذا أمر لا يمكن السكوت عنه، ولا بد أن لهذا السمك شأنًا غريبًا. فأمر بإحضار الصياد، فلما حضر قال له: من أين هذا السمك؟ فقال له: من بركة بين أربع جبال وراء هذا الجبل الذي بظاهر مدينتك. فالتفت الملك إلى الصياد وقال له: مسيرة كم يوم؟ قال له: يا مولانا السلطان، مسيرة نصف ساعة. فتعجّب السلطان، وأمر بخروج العسكر من وقته مع الصياد. فصار الصياد يلعن العفريت، وساروا إلى أن طلعوا الجبل، ونزلوا منه إلى بَرِّيَّة متسعة لم يروها مدة أعمارهم.

فوجد الملك في وسط القصر أربعة سباع من الذهب الأحمر تُلقي الماء من أفواهها، والسلطان وجميع العسكر يتعجبون من تلك البرية التي نظروها بين أربع جبال، والسمك فيها على أربعة ألوان: أحمر، وأبيض، وأصفر، وأزرق. فوقف الملك متعجبًا، وقال للعسكر ولمن حضر: هل أحد منكم رأى هذه البركة في هذا المكان؟ فقالوا كلهم: لا. فقال الملك: والله لا أدخل مدينتي، ولا أجلس على تخت ملكي حتى أعرف حقيقة هذه البركة وسمكها. ثم أمر الناس بالنزول حول هذه الجبال فنزلوا، ثم دعا بالوزير، وكان وزيرًا خبيرًا عاقلاً لبيبًا عالمًا بالأمور، فلما حضر بين يديه قال له: إني أردتُ أن أعمل شيئًا فأخبرك به؛ وذلك أنه خطر ببالي أن أنفرد بنفسي في هذه الليلة، وأبحث عن خبر هذه البركة وسمكها. فاجلس على باب خيمتي، وقل للأمراء والوزراء والحجاب: إن السلطان متشوش، وأمرني أن لا آذن لأحد في الدخول عليه، ولا تُعلم أحدًا بقصدي. فلم يقدر الوزير على مخالفته. ثم إن الملك غيَّر حالته، وتقلَّد سيفه، وانسلَّ من بينهم، ومشى بقية ليله إلى الصباح، فلم يزل سائرًا حتى اشتد عليه الحر فاستراح، ثم مشى بقية يومه وليلته الثانية إلى الصباح، فلاح له سوادٌ من بُعد، ففرح وقال: لعلِّي أجد من يخبرني بقضية البركة وسمكها. فلما قرب من السواد وجده قصرًا مبنيًا بالحجارة السود، مُصفَّحًا بالحديد، وأحد شقّيه مفتوح والآخر مغلوق. ففرح الملك، ووقف على الباب ودق دقًّا لطيفًا، فلم يسمع جوابًا، فدق ثانيًا وثالثًا، فلم يسمع جوابًا، فدق رابعًا دقًّا مزعجًا فلم يُجبه أحد، فقال: لا شك أنه خالٍ. فشجّع نفسه ودخل من باب القصر إلى دَهليزه، ثم صرخ وقال: يا أهل القصر، إني رجل غريب وعابر سبيل، هل عندكم شيء من الزاد؟ وأعاد القول ثانيًا وثالثًا فلم يسمع جوابًا؛ فقوَّى قلبه، وثبّت نفسه، ودخل من الدهليز إلى وسط القصر، فلم يجد فيه أحدًا، غير أنه مفروش، وفي وسطه فسقية عليها أربعة سباع من الذهب الأحمر، تُلقي الماء من أفواهها كالدر والجواهر، وفي دائرها طيور، وعلى ذلك القصر شبكة تمنعها من الطلوع. فتعجّب من ذلك، وتأَسَّف حيث لم ير فيه أحدًا يستخبر منه عن تلك البركة والسمك والجبال والقصر. ثم جلس بين الأبواب يتفكّر، وإذا هو بأنينٍ من كبد حزين، فسمعه يترنّم بهذا الشعر:

لَمّا خَفَيتُ ضَنًى وَوَجدي قد ظهر والنومُ من عيني تبدّل بالسهر
نادَيتُ وجْدًا قد تزايدَ بالفكر يا وجدُ لا تُبقِ عليَّ ولا تَذَرْ
ها مُهجتي بين المشقة والخطر

فلما سمع السلطان ذلك الأنين نهض قائمًا، وقصد جهته، فوجد سترًا مسبولاً على باب مجلس، فرفعه فرأى خلف الستر شابًا جالسًا على سرير مرتفع عن الأرض مقدار ذراع، وهو شاب مليح بقدٍّ رجيح، ولسان فصيح، وجبين أزهر، وخدٍّ أحمر، وشامة على كرْم خدّه كترس من عنبر، كما قال الشاعر:

وَمُهَفْهَفٍ مِن شَعرِهِ وَجبينِهِ مَشتِ الوَرى في ظُلمةٍ وَضياءِ
ما أبصرتْ عيناك أحسنَ منظرًا مِن وجهِهِ كالشَمس في الإشراقِ

 

ففرح به الملك وسلَّم عليه، والصبي جالس، وعليه قباء حرير مطرَّز من ذهب، لكن عليه أثر الحزن، فردَّ السلام على الملك، وقال له: يا سيدي، اعذرني في عدم القيام. فقال الملك: أيها الشاب، أخبرني عن هذه البركة، وعن سمكها الملون، وعن هذا القصر، وسبب وحدتك فيه، وما سبب بكائك؟

فلما سمع الشاب هذا الكلام، نزلت دموعه على خده وبكى بكاءً شديدًا؛ فتعجَّب الملك وقال له: ما يُبكيك أيها الشاب؟ فقال: كيف لا أبكي وهذه حالتي؟ ومدَّ يده إلى أذياله فرفعها، فإذا نصفه التحتاني إلى قدميه حجر، ومن سرَّته إلى شعر رأسه بشر. ثم قال الشاب: اعلم أيها الملك أن لهذا السمك أمرًا عجيبًا، لو كُتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرةً لمن اعتبر. وذلك يا سيدي أنه كان والدي ملك هذه المدينة، وكان اسمه محمود صاحب الجزائر السود، وصاحب هذه الجبال الأربعة، أقام في الملك سبعين عامًا، ثم تُوفِّي والدي وتسلطنتُ بعده، وتزوجت بابنة عمي، وكانت تحبني محبة عظيمة بحيث إذا غبت عنها لا تأكل ولا تشرب حتى تراني. فمكثت في عصمتي خمس سنين إلى أن ذهبتُ يومًا من الأيام إلى الحمام، فأمرت الطباخ أن يجهز لنا طعامًا لأجل العشاء، ثم دخلت هذا القصر ونمت في الموضع الذي أنام فيه، وأمرت جاريتين أن يروِّحا عليَّ وجهي، فجلست واحدة عند رأسي، والأخرى عند رجلي، وقد قلقت لغيابها ولم يأخذني نوم، غير أن عيني مغمضة ونفسي يقظانة، فسمعت التي عند رأسي تقول للتي عند رجلي: يا مسعودة، إن سيدنا مسكين شبابه، ويا خسارته مع سيدتنا الخبيثة الخاطئة. فقالت الأخرى: لعن الله النساء الزانيات، ولكن مثل سيدنا وأخلاقه لا يصلح لهذه الزانية التي كل ليلة تبيت في غير فراشه. فقالت التي عند رأسي: إن سيدنا مغفَّل حيث لم يسأل عنها. فقالت الأخرى: ويلكِ، وهل عند سيدنا علم بحالها، أو هي تخليه باختياره؟! بل تعمل له عملاً في قدح الشراب الذي يشربه كل ليلة قبل المنام، فتضع فيه البنج فينام ولا يشعر بما يجري، ولا يعلم أين تذهب ولا بما تصنع؛ لأنها بعدما تسقيه الشرابَ تلبس ثيابها وتخرج من عنده فتغيب إلى الفجر، وتأتي إليه وتبخِّره عند أنفه بشيء فيستيقظ من منامه.

فلما سمعتُ كلام الجواري صار الضياء في وجهي ظلامًا، وما صدَّقتُ أن الليل أقبل، وجاءت بنت عمي من الحمام، فمددنا السماط وأكلنا، وجلسنا ساعة زمانية نتنادم كالعادة، ثم دعوت بالشراب الذي أشربه عند المنام، فناولتني الكأس فترَاوغتُ عنه، وجعلت أني أشربه مثل عادتي، ودلقته في عبي، ورقدت في الوقت والساعة، فإذا بها قالت: نَمْ ليتك لم تقم، والله كرهتك وكرهت صورتك، وملَّت نفسي من عشرتك. ثم قامت ولبست أفخر ثيابها وتبخَّرت وتقلدت سيفًا، وفتحت باب القصر وخرجت، فقمتُ وتبعتها حتى خرجت من القصر، وشقَّت في أسواق المدينة إلى أن انتهت إلى أبواب المدينة، فتكلَّمت بكلام لا أفهمه، فتساقطت الأقفال وانفتحت الأبواب، وخرجت وأنا خلفها وهي لا تشعر، حتى انتهت إلى ما بين الكيمان، وأتت حصنًا فيه قبة مبنية بطين لها باب، فدخلته هي، وصعدتُ أنا على سطح القبة وأشرفت عليها، فإذا بها قد دخلت على عبدٍ أسود، إحدى شفتيه غطاء، وشفته الثانية وطـاء، وشفاهه تلتقط الرمل من الحصى، وهو مبتلٍ وراقد على قليل من قش القصب. فقبَّلت الأرض بين يديه، فرفع ذلك العبد رأسه إليها، وقال لها: ويلكِ! ما سبب قعودك إلى هذه الساعة؟! كان عندنا السودان، وشربوا الشراب، وصار كل واحد بعشيقته، وأنا ما رضيت أن أشرب من شأنك. فقالت: يا سيدي وحبيب قلبي، أما تعلم أني متزوجة بابن عمي، وأنا أكره الخلق في صورته، وأبغض نفسي في صحبته، ولولا أني أخشى على خاطرك لكنتُ جعلت المدينة خرابًا يصيح فيها البوم والغراب، وأنقلتُ حجارتها إلى خلف جبل قاف. فقال العبد: تكذبين يا عاهرة، وأنا أحلف بحق فتوّة السودان، وإلا تكون مرؤتنا مرؤة البيضان، إن بقيتِ تقعدين إلى هذا الوقت من هذا اليوم، لا أصاحبك ولا أضع جسدي على جسدك يا خائنة. أتتنقلين عليَّ من أجل شهوتك يا منتنة، يا أخسَّ البيضان؟

قال الملك: فلما سمعتُ كلامها، وأنا أنظر بعيني ما جرى بينهما، صارت الدنيا في وجهي ظلامًا، ولم أعرف روحي في أي موضع، وصارت بنت عمي واقفة تبكي إليه، وتتذلل بين يديه، وتقول له: يا حبيبي وثمرة فؤادي، ما أحد غيرك بقي لي، فإن طردتني يا ويلي، يا حبيبي يا نور عيني. وما زالت تبكي وتتصنَّع له حتى رضي عليها، ففرحت وقامت قلعت ثيابها ولباسها، وقالت له: يا سيدي، هل عندك ما تأكله جاريتك؟ فقال لها: اكشفي اللقان؛ فإن تحتها عظام فئران مطبوخة، فكليها وقرقشيها، وقومي لهذه القوارة تجدي فيها بوضة فاشربيها. فقامت وأكلت وشربت وغسلت يديها، وجاءت مع العبد على قش القصب وتعرَّت، ودخلت معه تحت الهُدْمَة والشرا…

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى