قصص

حكاية اليمين المفقودة والمال المستعاد..الليلة ٢٦

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب التاجر قال للنصراني: فلما دخلت وجلست، لم أشعر إلا والصبية قد أقبلت، وعليها تاج مكلل بالدرّ والجواهر، وهي منقَّشة مكتوبة. فلما رأتني تبسّمت في وجهي، وحضنتني، ووضعتني على صدرها، وجعلت فمها على فمي، وجعلت تمصّ لساني، وأنا كذلك، وقالت: أصحيح أتيتَ عندي أم هذا منام؟ فقلت لها: أنا عبدكِ. فقالت: أهلاً ومرحبًا، واللهِ من يوم رأيتك ما لذّ لي نوم، ولا طاب لي طعام. فقلتُ: وأنا كذلك.

ثم جلسنا نتحدث، وأنا مطرق برأسي إلى الأرض حياءً، ولم أمكث إلا قليلًا حتى قُدِّمت لي سفرة من أفخر الألوان، من المحمّر والمُرقَّق والدجاج المحمَّر، فأكلت معها حتى اكتفينا، ثم قُدِّم إليّ الطشت والإبريق، فغسلت يدي، ثم تطيّبنا بماء الورد والمِسك، وجلسنا نتحدّث، فأنشدت هذين البيتين:

لو علمنا قدومَكم لفرشنا مهجةَ القلبِ مع سوادِ العيونِ
ووضعنا خدودَنا للقِياكم وجعلنا المسيرَ فوق الجفونِ

وهي تشكو إليّ ما لاقت، وأنا أشكو إليها ما لاقيت، وتمكن حبها عندي، وهان عليّ جميع المال. ثم أخذنا نلعب ونتمازح بالعناق والتقبيل إلى أن أقبل الليل، فقدّمت لنا الجواري الطعام والمدام، فإذا هي حفلة كاملة، فشربنا إلى نصف الليل، ثم اضطجعنا ونمنا، فنمت معها إلى الصباح، فما رأيت في عمري مثل تلك الليلة.

فلما أصبح الصباح قمتُ ورميتُ لها تحت الفراش المنديل الذي فيه الدنانير، وودّعتُها وخرجتُ، فبكت وقالت: يا سيدي، متى أرى هذا الوجه المليح؟ فقلتُ لها: أكون عندك وقت العشاء.

فلما خرجتُ وجدتُ الحمار الذي جاء بي بالأمس عند الباب ينتظرني، فركبتُ معه حتى وصلت خان مسرور، فنزلت وأعطيت الحمار نصف دينار، وقلت له: تعال في وقت الغروب. فقال: على الرأس.

فدخلت الخان وفطرت، ثم خرجت أطالب بثمن القماش، ثم رجعت وقد عملتُ لها خروفًا مشويًا، وأخذتُ حلاوة، ثم دعوتُ الحمّال، ووصفتُ له المحل، وأعطيته أجرته، ورجعت في أشغالي إلى الغروب، فجاءني الحمار، فأخذت خمسين دينارًا وجعلتها في منديل ودخلت، فوجدتُهم قد مسحوا الرخام، وحلّوا النحاس، وعمّروا القناديل، وأوقدوا الشموع، وغرفوا الطعام، ورقّوا الشراب.

فلما رأتني رمت يديها على رقبتي وقالت: أوحشتني. ثم قُدِّمت الموائد، فأكلنا حتى اكتفينا، ورفعت الجواري المائدة، وقدمت المدام، فلم نزل في شراب وتقبيل ولهو إلى نصف الليل، فنمنا إلى الصباح، ثم قمتُ وناولتها الخمسين دينارًا على العادة، وخرجتُ من عندها، فوجدت الحمار، فركبت إلى الخان، فنمت ساعة ثم قمت أجهز العشاء، فعملت جوزًا ولوزًا وتحته أرز مفلفل، وعملت قلقاسًا مقليًا ونحو ذلك، وأخذت فاكهة ونُقْلًا ومشمومًا، وأرسلتها وسرت إلى البيت، وأخذت خمسين دينارًا في منديل، وخرجت فركبت مع الحمار على العادة إلى القاعة.

فدخلت ثم أكلنا وشربنا ونمنا إلى الصباح، ولما قمتُ رميتُ لها المنديل، وركبت إلى الخان على العادة، ولم أزل على تلك الحالة مدة حتى بتُّ وأصبحت لا أملك درهمًا ولا دينارًا.

فقلت في نفسي: هذا من فعل الشيطان. وأنشدت هذه الأبيات:

فقرُ الفتى يُذهب أنوارَه كاصفرارِ الشمسِ عند المغيبْ
إن غاب لا يُذكر بين الورى وإن أتى فما له من نصيبْ
يمرّ في الأسواقِ مستخفِيًا وفي الفلا يبكي بدمعٍ صبيبْ
واللهِ ما الإنسان في أهله إذا ابتُلي بالفقرِ إلا غريبْ

ثم تمشّيت إلى أن وصلت بين القصرين، ولا زلت أمشي حتى وصلت إلى باب زويلة، فوجدت الخلق في ازدحام، والباب مسندًا من كثرة الناس، فرأيتُ بالأمر المقدّر جنديًّا فزاحمته بغير اختياري، فجاءت يدي على جيبه، فجسسته، فوجدت فيه صرّة من داخل الجيب الذي يدي عليه، فعمدت إلى تلك الصرّة فأخذتها من جيبه، فأحسّ الجندي بأن جيبه خفّ، فحطّ يده في جيبه فلم يجد شيئًا، فالتفت نحوي ورفع يده بالدبوس، وضربني على رأسي، فسقطت على الأرض.

فاحتاط الناس بنا وأمسكوا لجام فرس الجندي، وقالوا: أمِن أجل الزحمة تضرب هذا الشاب هذه الضربة؟ فصرخ عليهم الجندي وقال: هذا حرامي سارق. فعند ذلك أفقتُ ورأيت الناس يقولون: هذا الشاب مليح، لم يأخذ شيئًا.

 

فبعضهم يُصدّق، وبعضهم يُكذّب، وكَثُر القيل والقال، وجذبني الناس وأرادوا خلاصي منه، فبالأمر المقدّر جاء الوالي هو وبعض الحكّام في هذا الوقت، ودخلوا من الباب، فوجدوا الخلق مجتمعين عليَّ وعلى الجندي. فقال الوالي: ما الخبر؟
فقال الجندي: والله يا أمير، إن هذا حرامي، وكان في جيبي كيس أزرق فيه عشرون دينارًا فأخذه وأنا في الزحام.
فقال الوالي للجندي: هل كان معك أحد؟
فقال الجندي: لا.

فصرخ الوالي على المقدَّم وقال: أمسكه وفتّشه. فأمسكني وقد زال الستر عني، فقال له الوالي: أعرِه من جميع ما عليه. فلما أعراني وجدوا الكيس في ثيابي، فلما وجدوا الكيس أخذه الوالي وفتحه وعدَّه، فرأى فيه عشرين دينارًا كما قال الجندي.

فغضب الوالي وصاح بأتباعه وقال: قدّموه. فقدّموني بين يديه، فقال لي: يا صبي، قل الحق، هل أنت سرقت هذا الكيس؟
فأطرقتُ برأسي إلى الأرض وقلت في نفسي: إن قلت ما سرقته فقد أخرجه من ثيابي، وإن قلت سرقته وقعتُ في العناء.
ثم رفعت رأسي وقلت: نعم، أخذته.

فلما سمع مني الوالي هذا الكلام تعجب، ودعا الشهود فحضروا وشهدوا على منطقي هذا كله في باب زويلة، فأمر الوالي السيّاف بقطع يدي، فقطع يدي اليمنى.
فرقّ قلب الجندي وشفَع في عدم قتلي، فتركني الوالي ومضى، وصارت الناس حولي وسقوني قدح شراب، وأما الجندي فإنه أعطاني الكيس وقال: أنت شاب مليح، ولا ينبغي أن تكون لصًّا. فأخذته منه، وأنشدت هذه الأبيات:

واللهِ ما كنتُ لصًّا يا أخا ثقةٍ ** ولم أكن سارقًا يا أحسنَ الناسِ
لكن رمتني صروفُ الدهرِ عن عجلٍ ** فزاد همي ووسواسي وإفلاسي
الإلهُ رمى سهمًا فطيرَ تاجَ الملكِ عن رأسي ** وما رميتُ ولكنْ هي المقاديرُ في أنفاسي

فتركني الجندي وانصرف بعد أن أعطاني الكيس، وانصرفتُ أنا ولففت يدي في خرقة وأدخلتُها عبِّي، وقد تغيّرت حالتي واصفرّ لوني مما جرى لي، فتمشّيتُ إلى القاعة وأنا على غير استواء، ورميتُ روحي على الفراش.

فنظرت إليّ الصبية متغيّر اللون فقالت لي: ما وجعك وما لي أرى حالتك تغيّرت؟
فقلت لها: رأسي توجعني، وما أنا طيّب. فعند ذلك اغتاظت وتشوشَت لأجلي، وقالت: لا تحرق قلبي يا سيدي، اقعد وارفع رأسك وحدّثني بما حصل لك اليوم، فقد بان لي في وجهك كلام.
فقلت: دعيني من الكلام.

فبكت وقالت: كأنك قد فرغ غرضك منا، فإني أراك على خلاف العادة. فبكت وصارت تحدّثني وأنا لا أجيبها حتى أقبل الليل، فقدّمت لي الطعام فامتنعت، وخشيت أن تراني آكل بيدي الشمال، فقلت: لا أشتهي أن آكل في هذه الساعة.
فقالت: حدّثني بما جرى لك في هذا اليوم، ولأي شيء أراك مهمومًا مكسور الخاطر والقلب؟
فقلت لها: في هذه الساعة أُحدّثك على مهلي.

فقدّمت لي الشراب وقالت: دونك، فإنه يزيل همك، فلا بد أن تشرب وتحدّثني بخبرك.
فقلت لها: إن كان ولا بد فاسقيني بيدك. فملأت القدح وشربته وملأته وناولَتْني إياه، فتناولته منها بيدي الشمال، وفرتِ الدمعة من جفني، فأنشدت هذه الأبيات:

إذا أرادَ اللهُ أمرًا لامرئٍ ** وكان ذا عقلٍ وسمعٍ وبصرْ
أصمَّ أذنيه وأعمى قلبَه ** وسلَّ منه عقلَه سلَّ الشعرْ
حتى إذا أنفذ فيه حكمَه ** ردَّ إليه عقلَه مع النظرْ

فلما فرغتُ من شعري تناولت القدح بيدي الشمال وبكيت، فلما رأتني أبكي صرخت صرخة قوية وقالت: ما سبب بكائك؟ قد أحرقت قلبي! وما لك تناولت القدح بيدك الشمال؟
فقلت لها: إن بيدي حبّة.
فقالت: أخرجها حتى أفقعها لك.
فقلت: ما هو وقت فقعها، لا تطيقي عليَّ.
فما أخرجتها في تلك الساعة.

ثم شربت القدح، ولم تزل تسقيني حتى غلب السكر عليّ، فنمت مكاني، فأبصرت يدي بلا كف، ففتشتني فرأت معي الكيس الذي فيه الذهب، فدخل عليها الحزن ما لا يدخل على أحد، ولا زالت تتألّم بسببي إلى الصباح.

فلما أفقتُ من النوم وجدتها هيّأت لي مسلوقة وقدّمتها، فإذا هي أربعة طيور من الدجاج، وسقتني قدح شراب، فأكلت وشربت، وحططت الكيس وأردت الخروج، فقالت: أين تروح؟
فقلت: إلى مكان كذا لأزحزح بعض الهم عن قلبي.
فقالت: لا ترحل، بل اجلس.

فجلست، فقالت لي: وهل بلغت محبتك إياي إلى أن صرفت جميع مالك عليَّ وعدمت كفك؟ فأشهدك عليَّ، والشاهد الله، أني لا أفارقك، وسترى صحة قولي، ولعل الله استجاب دعوتي بزواجك.

وأرسلت خلف الشهود فحضروا، فقالت لهم: اكتبوا كتابي على هذا الشاب، واشهدوا أني قبضت المهر. فكتبوا كتابي عليه، ثم قالت: اشهدوا أن جميع مالي الذي في هذا الصندوق، وجميع ما عندي من المماليك…

والجواري لهذا الشاب، فشهدوا عليها وقَبِلتُ أنا التمليك، وانصرفوا بعدما أخذوا الأجرة.
ثم أخذتني من يدي، وأوقفتني على خزانة، وفتحت صندوقًا كبيرًا، وقالت لي: انظر هذا الذي في الصندوق.
فنظرتُ فإذا هو مملوء مناديل، فقالت: هذا مالك الذي أخذته منك، فكلما أعطيتني منديلًا فيه خمسون دينارًا، ألُفّه وأرميه في هذا الصندوق، فخذ مالك، فقد ردَّه الله عليك، وأنت اليوم عزيز، فقد جرى عليك القضاء بسببي حتى عدمت يمينك، وأنا لا أقدر على مكافأتك، ولو بذلتُ روحي لكان ذلك قليلًا، ولك الفضل.
ثم قالت لي: تسلّم مالك.

فتسلّمتُه، ثم نقلتُ ما في صندوقها إلى صندوقي، وضممتُ مالها إلى مالي الذي كنتُ أعطيتُها إياه، وفرح قلبي وزال همي، فقمتُ قبّلتُها وسكرتُ معها، فقالت: لقد بذلتَ جميع مالك ويدك في محبتي، فكيف أقدر على مكافأتك؟ والله لو بذلتُ روحي في محبتك لكان ذلك قليلًا، وما أقوم بواجب حقك عليّ.

ثم إنها كتبت لي جميع ما تملك من ثياب بدنها وصيغتها وأملاكها بحُجّة، وما نامت تلك الليلة إلا مهمومة من أجلي حين حكيتُ لها ما وقع لي، وبِتُّ معها، ثم أقمنا على ذلك أقل من شهر، وقوي بها الضعف وزاد بها المرض، وما مكثت غير خمسين يومًا، ثم صارت من أهل الآخرة.

فجهّزتُها ووارَيتُها في التراب، وعملتُ لها ختْمات، وتصدّقتُ عليها بجملة من المال، ثم نزلت من التربة، فرأيتُ لها مالًا جزيلًا وأملاكًا وعقارات، ومن جملة ذلك تلك المخازن من السمسم التي بعتُ لك منها ذلك المخزن.

وما كان اشتغالي عنك هذه المدة إلا لأني بعتُ بقية الحواصل، وإلى الآن لم أفرغ من قبض الثمن، فأرجو منك ألا تخالفني فيما أقوله لك، لأني أكلتُ زادك، فقد وهبتُك ثمن السمسم الذي عندك، فهذا سبب أكلي بيدي الشمال.

فقلتُ له: لقد أحسنتَ إليّ، وتفضّلتَ عليّ.
فقال لي: لا بد أن تسافر معي إلى بلادي، فإني اشتريت متجرًا مصريًا وإسكندرانيًا، فهل لك في مصاحبتي؟
فقلت: نعم.

ووعدتُه على رأس الشهر، ثم بعتُ جميع ما أملك، واشتريتُ به متجرًا، وسافرتُ أنا وذلك الشاب إلى هذه البلاد التي هي بلادكم.
فباع الشاب متجره، واشترى متجرًا عوضه من بلادكم، ومضى إلى الديار المصرية، فكان نصيبي في قعودي هذه الليلة حتى حصل ما حصل في غربتي.

فهذا يا ملك الزمان ما هو بأعجب من حديث الأحدب.
فقال الملك: لا بد من شنقكم كلكم.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى