قصص

حين تغني مستنقعات الجنوب: قراءة سردية في رواية Where the Crawdads Sing – ديليا أوينز

 النبذة التعريفية

رواية Where the Crawdads Sing (حيث تغني السرطانات) هي العمل الأدبي الأول للكاتبة والعالمة البيئية الأمريكية ديليا أوينز، وقد نُشرت لأول مرة في 14 أغسطس 2018. تنتمي الرواية إلى مزيج متقن من الدراما الأدبية والرومانسية والغموض البوليسي، وتدور أحداثها في أعماق المستنقعات الساحلية في ولاية كارولاينا الشمالية، خلال فترة الخمسينات وحتى أواخر الستينات من القرن العشرين.

حققت الرواية نجاحًا عالميًا غير مسبوق، إذ بيع منها أكثر من 15 مليون نسخة، وتُرجمت إلى أكثر من 44 لغة حول العالم. كما تصدّرت قائمة نيويورك تايمز للروايات الأكثر مبيعًا لما يزيد عن 150 أسبوعًا متتاليًا، وفازت بجائزة Goodreads Choice Award لأفضل رواية لعام 2018.

أسلوب ديليا أوينز في السرد مزيج بين الشاعرية البيئية والدقة العلمية والانفعالات الإنسانية العميقة، وقد استفادت من خلفيتها كعالمة أحياء درست سلوك الحيوانات في الطبيعة، لتجعل من المستنقع شخصية حيّة في الرواية، لا مجرد خلفية للأحداث.

مستنقع الحياة… بداية القصة

في بلدة صغيرة تُدعى باركلي كوف، تُحاط بالمستنقعات الواسعة على ساحل ولاية كارولاينا الشمالية، تبدأ القصة التي أصبحت من أكثر القصص الأدبية تأثيرًا في القرن الحادي والعشرين.

في كوخ متداعٍ عند أطراف المستنقع، تعيش كايا كلارك، الطفلة الصغيرة التي عرفها سكان البلدة لاحقًا باسم “فتاة المستنقع”. عانت كايا منذ سن مبكرة من الإهمال والنبذ الاجتماعي، فقد نشأت في أسرة فقيرة ومضطربة، حيث كان الأب مدمنًا على الكحول ويُمارس العنف المنزلي.

عندما كانت كايا في السادسة من عمرها، غادرت والدتها الكوخ دون وداع، تاركة أطفالها لمصير مجهول. وبعدها، هرب أشقاؤها واحدًا تلو الآخر، حتى لم يبقَ أحد سوى كايا مع والدها، الذي سرعان ما اختفى بدوره، ليتركها وحيدة تمامًا، في عالم لا يعرف الرحمة.

لكن بدلاً من الانهيار، تعلمت كايا كيف تعيش. اصطادت، زرعت، طبخت، وواجهت العواصف وحيدة. لكنها في الوقت نفسه أقامت علاقة متينة مع الطبيعة. كانت الطيور والنباتات والمياه رفاقها ومعلميها. بدأت تحفظ مواسم الطيور، وأنماط المد والجزر، وتحوّلت إلى عالمة طبيعة بالفطرة.

 الصمت الذي يتكلم

في عزلة المستنقع، تعلّمت كايا أن الصمت ليس ضعفًا، بل وسيلة للبقاء. وحين حاولت الدولة إجبارها على الذهاب إلى المدرسة، ذهبت ليوم واحد فقط، ثم لم تعد أبدًا. كانت نظرات الأطفال كافية لتُفهمها أنها لن تُقبل بينهم.

لكنها لم تكن وحدها تمامًا. في أطراف المستنقع، كان هناك صبي يُدعى تايت ووكر، كان والدُه يعمل صيادًا. لاحظ وجود كايا، وبدأ يتقرّب منها بحذر، يُرسل لها الهدايا الصغيرة: ريش طيور نادر، أو صدفة بحرية، أو كتاب قديم.

مع مرور الوقت، بدأ تايت يعلّم كايا القراءة والكتابة. كان اللقاء الأول لها مع الكلمات المطبوعة بمثابة فتحٍ لعالمٍ جديد. شغفت بالعلم، وبدأت تقرأ كل ما تقع عليه يداها، خاصة الكتب التي تتعلق بالحياة البرية والبيئة.

تطورت العلاقة بين كايا وتايت ببطء، من صداقة إلى حب صامت يشبه نسيم المستنقع عند الغروب. لكن تايت حصل على منحة جامعية، وغادر البلدة، واعدًا كايا أنه سيعود.

لكن كايا انتظرته… ولم يعد.

 لقاءات الخذلان

عادت كايا إلى عزلتها المعتادة، لكن هذه المرة بقلب جريح. ثم ظهر في حياتها رجل آخر: تشيس أندروز، الشاب الوسيم المحبوب من البلدة، ذو الخلفية الاجتماعية الراقية. بدا مهتمًا بكايا، يتودد لها، يعاملها بلطف… ووقعت في حبّه.

لكن كايا ستكتشف لاحقًا أن تشيس كان يخدعها. فقد كان يرى فيها متعة سرية لا أكثر، وكان مرتبطًا بفتاة أخرى، من طبقته، تخطط عائلته للزواج منها.

حين حاول تشيس الاعتداء عليها، قاومته بكل ما أوتيت من قوة، واستطاعت النجاة. كانت تلك لحظة فارقة في حياتها؛ لم تكن كايا الفتاة الصغيرة التي تنتظر العطف، بل امرأة تعرف كيف تحمي نفسها.

في الأثناء، عادت كايا لكتابة ملاحظاتها البيئية، وبمساعدة من ناشر مهتم، أصدرت سلسلة كتب علمية مصوّرة عن طيور المستنقع ونباتاته. بدأت تجني المال، وتحقّق اكتفاء ذاتيًا، بل وصارت مشهورة في الأوساط الأكاديمية رغم أنها لم تُكمل تعليمها الرسمي.

 جريمة تهز البلدة

في 1969، عُثر على جثة تشيس أندروز أسفل برج مراقبة قديم في منطقة المستنقع. لا توجد بصمات، ولا آثار واضحة للجريمة. الشرطة تتخبّط، لكن الشكوك تتجه سريعًا نحو كايا.

لماذا؟ لأنها مختلفة. غريبة. منعزلة. ولأن الجميع يعرف أن علاقة غامضة كانت تربطها بتشيس، ثم انتهت فجأة.

تُعتقل كايا، ويبدأ التحقيق، ثم تحال إلى المحاكمة بتهمة القتل. ويتحول كل ما عاشته من عزلة وحرية إلى قفص زجاجي في قاعة محكمة، تُحاكم فيه لا فقط على جريمة لم تُثبت، بل على كونها “فتاة المستنقع” التي لم تكن يومًا جزءًا من مجتمع البلدة.

يتولى الدفاع عنها محامٍ عجوز يُدعى توم ميلتون، يؤمن ببراءتها ويخوض معركة قانونية في وجه مجتمع متحيّز.

وفي قاعة المحكمة، تظهر كل التناقضات: أين الدليل؟ من الشاهد؟ لماذا لم تُرَ كايا قرب موقع الجريمة؟ وعلى الرغم من الشكوك، تخرج هيئة المحلفين بنتيجة واحدة: البراءة.

 العودة إلى الوطن

تعود كايا إلى المستنقع، إلى كوخها، إلى طيورها ومياهها المالحة. ويعود إليها تايت، نادمًا، معتذرًا. يسكنان معًا، يعملان في البحث العلمي، ويقضيان سنوات طويلة في هدوء وسلام.

تُشيّع كايا بعد وفاتها في سن السبعين، ويكتشف تايت وهي يفتّش في مقتنياتها صندوقًا خشبيًا صغيرًا، وفيه قصائد بخط يدها… ومن بينها واحدة تصف مقتل تشيس بطريقة تُشير ضمنيًا إلى مسؤوليتها. كما وجد قلادة كان تشيس يرتديها يوم مقتله، اختفت بعد وفاته، وها هي مخبأة في مقتنيات كايا.

وهكذا، تُفهم الحقيقة: لقد فعلتها كايا. لم يكن ذلك بدافع الغضب فقط، بل بدافع البقاء، الدفاع عن النفس، والانتقام العادل من رجل حاول تدميرها.

 الأعمال الفنية المقتبسة عن الرواية

في يوليو 2022، عُرض الفيلم المقتبس عن الرواية بعنوان:
Where the Crawdads Sing

  • الإخراج: أوليفيا نيومان
  • البطولة: ديزي إدغار-جونز (كايا)، تيلور جون سميث (تايت)، هاريس ديكنسون (تشيس)
  • الإنتاج: شركة Hello Sunshine، بإشراف النجمة ريس ويذرسبون
  • السيناريو: لوسي أليب
  • الموسيقى: الأغنية الأصلية “Carolina” من أداء تايلور سويفت
  • تقييم IMDb: 7.2/10
  • تقييم الجمهور على Rotten Tomatoes: 96%
  • تقييم النقاد على Rotten Tomatoes: 34%
  • الإيرادات العالمية: تجاوزت 140 مليون دولار

 أصداء الفيلم والتحوّل الثقافي

لاقى الفيلم استقبالًا جماهيريًا كبيرًا، خاصة بين محبي الرواية. وامتدح النقاد أداء ديزي إدغار-جونز، وتصوير الطبيعة الخلابة، والأجواء الهادئة التي عكست روح الرواية. كما أثار ضجة بسبب الأغنية الأصلية التي قدّمتها تايلور سويفت، ما جذب فئات شابة من الجمهور.

إلا أن بعض النقاد رأوا أن الفيلم لم يعكس عمق الرمزية في الرواية، واختصر شخصياتها بطريقة تجارية. اعتُبر أكثر ميلًا للرومانسية من الفلسفة التي بُني عليها النص الأصلي، لكنه مع ذلك فتح بابًا جديدًا لتأويل الرواية، وساهم في إعادة طبعها وتوسيع جمهورها.

الفيلم جعل من “كايا” رمزًا ثقافيًا جديدًا للمرأة المستقلة التي تتحدى الصمت، وتتعلّم من الطبيعة، وتصوغ عالمها بعيدًا عن العنف الاجتماعي.

 في الختام

رواية Where the Crawdads Sing ليست فقط قصة عن فتاة تعيش في المستنقع، بل هي تأمل عميق في مفاهيم العزلة، العدالة، الحرية، والهوية. كايا لم تكن فقط طفلة منبوذة، بل امرأة شكّلت عالمها رغم القسوة، وانتقمت دون أن تُدركها العدالة.

عبر أسلوب شاعري وعلمي، وسرد متشابك زمنيًا، استطاعت ديليا أوينز أن تصوغ رواية ترنّ في القلوب كصدى طائر في مستنقع هادئ. رواية عن أولئك الذين لا نسمعهم… حتى نُجبر على ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى