دماغك أثناء العمل: كيف يفكر العقل تحت ضغط الحياة العصرية

المقدمة: رحلة داخل العقل المرهق
في زمن تتسارع فيه المهام اليومية بشكل يفوق قدرة الإنسان على التنظيم والتركيز، يظهر كتاب “دماغك أثناء العمل” للمفكر والباحث في علوم القيادة ديفيد روك (David Rock)، الصادر عام 2015، كمرشد عملي لفهم العقل البشري عندما يُوضع تحت الضغط. الكتاب ليس مجرد دليل لإدارة الوقت أو تحسين الإنتاجية، بل هو نافذة إلى ما يحدث في أدمغتنا عندما نحاول إنجاز المهام، التعامل مع الاجتماعات، أو حتى التفاعل مع الآخرين وسط بيئة عمل مزدحمة.
يستند الكتاب إلى علم الأعصاب الإدراكي، فيدمج بين أحدث الأبحاث العلمية وحكايات يومية تعكس حياتنا المهنية المعاصرة. ومن خلال أسلوب قصصي واقعي، يقدم روك إطارًا يساعد القراء على تنظيم الانتباه، إدارة العواطف، تحسين اتخاذ القرار، وزيادة التعاون.
أولًا: عن المؤلف – ديفيد روك
يُعد ديفيد روك واحدًا من أبرز المفكرين المعاصرين في مجال القيادة العصبية (NeuroLeadership)، وهو مؤسس “معهد القيادة العصبية”. عمل على تطوير نموذج SCARF الذي يشرح كيفية تفاعل البشر مع التهديدات والمكافآت في بيئات العمل.
كتابه “دماغك أثناء العمل” يمثل ذروة جهوده في الجمع بين علم الأعصاب والتطبيق العملي، إذ يعرض للقارئ كيفية توظيف معرفة الدماغ لتعزيز الأداء الشخصي والمهني.
ثانيًا: هيكل الكتاب وفكرته العامة
الكتاب مكتوب بأسلوب قصصي درامي، حيث يتابع القارئ أحداث يوم عمل لشخصين:
- إميلي: امرأة عاملة تواجه تحديات مهنية تتعلق بالتوازن بين الأولويات.
- بول: مدير يعيش ضغوطًا متكررة بسبب الاجتماعات والقرارات.
من خلال يومياتهما، يُظهر ديفيد روك كيف يفشل الدماغ أحيانًا في مواجهة التحديات، ثم يعود ليقدم استراتيجيات عملية للتغلب على ذلك.
الفكرة الأساسية التي يركز عليها الكتاب هي:
“إن الدماغ مثل المسرح، لا يمكن أن يُعرض على خشبته سوى عدد محدود من المشاهد في اللحظة الواحدة.”
بمعنى أن سعة الانتباه والذاكرة العاملة محدودة، وأن فهم هذه المحدودية هو مفتاح الإنتاجية الحقيقية.
ثالثًا: مفاهيم محورية في الكتاب
1- الذاكرة العاملة كموارد محدودة
يشرح روك أن الدماغ البشري لديه ما يشبه “المسرح العقلي”، حيث لا يمكن للذاكرة العاملة أن تحتفظ إلا بعدد قليل من الأفكار في نفس الوقت (حوالي 4 عناصر فقط). لذلك، محاولة القيام بمهام متعددة تستنزف موارد الدماغ وتؤدي إلى ضعف الأداء.
2- الانتباه والتركيز
يؤكد المؤلف أن الانتباه كالعدسة: حيثما تُوجهها ينمو الوعي. لكن هذه العدسة تستهلك طاقة كبيرة، مما يجعل الانتباه المستمر صعبًا. لذا، يقترح تقسيم المهام إلى فترات قصيرة، والبدء بالأنشطة الأكثر أهمية في أوقات الذروة العقلية.
3- العاطفة واتخاذ القرار
الدماغ ليس آلة منطقية صرفة؛ بل تتداخل المشاعر في جميع القرارات. وعندما يكون الشخص تحت الضغط أو الخوف، يتعطل الجزء المنطقي (القشرة الأمامية)، ويهيمن “النظام الحوفي” (المسؤول عن الانفعالات).
من هنا يوصي الكتاب بتعلم تنظيم الانفعالات عبر استراتيجيات مثل إعادة التقييم (Reappraisal)، أي إعادة صياغة الموقف ذهنيًا لتقليل شدته العاطفية.
4- التعاون والتفاعل الاجتماعي
يقدم روك إطار SCARF (Status, Certainty, Autonomy, Relatedness, Fairness) أي: المكانة، اليقين، الاستقلالية، الترابط، العدالة.
هذا النموذج يشرح كيف أن بيئة العمل التي تدعم هذه العوامل تزيد من شعور الأمان والتحفيز لدى الأفراد.
رابعًا: أسلوب السرد – مسرح العقل
يعتمد الكتاب على أسلوب يشبه المسرح:
- المشاهد الأولى تصوّر إميلي وبول وهما يعيشان مواقف مألوفة (إيميلات متراكمة، اجتماع طويل، قرارات عاجلة).
- ثم ينتقل المؤلف إلى شرح ما يحدث “وراء الكواليس” في دماغيهما.
- أخيرًا، يقدم استراتيجيات عملية لإدارة الطاقة الذهنية والانفعالية.
بهذا الدمج بين القصة والشرح العلمي، يسهل على القارئ أن يرى نفسه في المواقف ويتعلم منها.
خامسًا: استراتيجيات عملية من الكتاب
1- تحديد الأولويات مبكرًا
- ركّز على أصعب المهام في بداية اليوم حيث يكون الدماغ في قمة نشاطه.
- لا تؤجل القرارات المهمة إلى أوقات الإرهاق.
2- إدارة الانتباه
- استخدم تقنية “الانتباه الموجّه”: أي ركّز على مهمة واحدة فقط دون تشتت.
- تجنّب تعدد المهام لأنه وهم يقلل الإنتاجية.
3- تنظيم الانفعالات
- طبّق “إعادة التقييم”: بدل أن ترى الموقف تهديدًا، انظر إليه كتحدٍ.
- التوقف والتنفس بعمق قبل الرد يساعد على تهدئة النظام الحوفي.
4- التعاون بذكاء اجتماعي
- احرص على تعزيز العدالة في القرارات.
- شارك الآخرين بالمعلومات لتقليل الغموض.
- احترم مكانة الزملاء وامنحهم الاستقلالية.
5- إدارة الطاقة
- العقل يحتاج إلى فترات راحة متكررة لاستعادة قدرته على التفكير.
- ممارسة الرياضة والنوم الجيد ليست رفاهية، بل أساس لحماية القدرات الإدراكية.
سادسًا: نقاط القوة في الكتاب
- أسلوب قصصي يجعل القارئ يتفاعل مع المواقف.
- اعتماد على أحدث أبحاث علم الأعصاب.
- تقديم أدوات عملية قابلة للتطبيق الفوري.
- وضوح النموذج (SCARF) الذي يُستخدم اليوم في برامج تدريبية للشركات الكبرى.
سابعًا: الانتقادات الموجهة للكتاب
رغم نجاح الكتاب، إلا أنه لم يسلم من النقد:
- بعض الباحثين يرون أن تبسيط العمليات العصبية قد يُوهم القارئ بأن الدماغ يعمل مثل “آلة حسابية”، بينما الواقع أكثر تعقيدًا.
- هناك من يرى أن الاستراتيجيات ليست جديدة تمامًا، بل هي إعادة صياغة لمبادئ إدارة الوقت والانتباه التقليدية بغطاء علم الأعصاب.
ومع ذلك، فإن الكتاب يظل جسرًا مهمًا بين العلم والتطبيق.
ثامنًا: الأثر العالمي للكتاب
منذ نشره عام 2015، أصبح الكتاب مرجعًا أساسيًا في:
- برامج تطوير القيادة داخل الشركات العالمية.
- تدريب المدراء والموظفين على إدارة التوتر وزيادة الإنتاجية.
- إثراء مجال “القيادة العصبية” الذي يقوده ديفيد روك.
وقد تُرجم إلى عدة لغات، مما جعل أفكاره متاحة لملايين القراء حول العالم.
تاسعًا: اقتباسات ملهمة من الكتاب
- “دماغك ليس آلة لا تتعب؛ بل مورد محدود يحتاج إلى إدارة حكيمة.”
- “كل قرار صغير تتخذه يستنزف طاقتك، لذا ركّز على ما يستحق.”
- “القيادة ليست فقط في اتخاذ القرارات، بل في خلق بيئة تحفّز عقول الآخرين.”
عاشرًا: الدروس المستفادة والإلهام
يعلّمنا كتاب “دماغك أثناء العمل” أن:
- إدارة العقل أهم من إدارة الوقت.
- الإنتاجية الحقيقية تأتي من التركيز على القليل المهم بدل الانشغال بالكثير التافه.
- الوعي بحدود الدماغ يحول دون الوقوع في فخ الإرهاق والإحباط.
- النجاح في العمل مرتبط بقدرتنا على إدارة الانتباه والعاطفة والتفاعل الاجتماعي.
إنه كتاب يضع أمامنا مرآة لواقعنا اليومي، ويمنحنا أدوات عملية لتغيير الطريقة التي نفكر ونعمل بها.
الخاتمة
إن حياة الدماغ في بيئة العمل ليست سهلة، لكن فهم كيف يعمل يمنحنا قوة هائلة. كتاب ديفيد روك يقدم مزيجًا فريدًا من العلم، القصة، والتطبيق العملي، ما يجعله واحدًا من أهم المراجع الحديثة لكل من يسعى إلى تحسين إنتاجيته وقيادته لحياته ومهنته.
إذا كان عالمنا اليوم مليئًا بالضغوط والمشتتات، فإن هذا الكتاب بمثابة “دليل تشغيل” لعقولنا وسط هذه الفوضى.
لمعرفة المزيد: دماغك أثناء العمل: كيف يفكر العقل تحت ضغط الحياة العصرية