رحلة الحكمة بين لقمان والإمام: قراءة معمّقة في العلم والوجود والإنسان

مقدمة
يأتي كتاب «لقمان والإمام» من تأليف الدكتورة أنجي فراج ليشكّل رحلة معرفية وروحية تتقاطع فيها الحكمة الإلهية مع التجربة الإنسانية، ويجتمع فيها النص القرآني مع التأمل العقلي، وتلتقي فيها الأسئلة العميقة حول جوهر العلم، والمعلوم، والعليم، بالحكمة التي سارت عليها شخصيات خالدة في الذاكرة القرآنية، وفي مقدمتها لقمان الحكيم.
صدر الكتاب سنة 2023 عن دار الميدان للنشر والتوزيع، ضمن فئة الكتب العامة، إلا أن محتواه يتجاوز بكثير التصنيف العام، متوغّلًا في فضاءات فلسفية وروحية وتدبرية تجعل منه نصًا معرفيًا مركبًا، يفتح أبوابًا جديدة لفهم الحكمة القرآنية.
تقدم الدكتورة أنجي فراج عملاً ليس مجرد سرد أو تحليل، بل بناء فكري ينطلق من تأملات عميقة في العلاقة بين الإنسان وربه، وبين العلم والمعلوم والعليم، مستندة إلى النصوص المحكمة، والشرح المنهجي، والعبرة الإنسانية التي لا تنفصل عن جذور الإيمان.
أولاً: الكتاب بين الحكمة والإنسان – لماذا لقمان؟
اختيار لقمان في هذا العمل لم يكن اعتباطيًا؛ فهو شخصية قرآنية فريدة لا تُعرف نسبًا ولا تاريخًا سياسيًا ولا خلافة ولا نبوة، ولكن القرآن رفعه إلى مقام الحكمة.
فالحكمة كما تُعرض في الكتاب ليست هبة فطرية فقط، وليست حصيلة تجربة دنيوية وحسب، بل هي نور يسكبه الله على قلب عبده، كما أنها صناعة عقلية وسلوكية يتدرّب عليها الإنسان.
تبرز الدكتورة فراج في الفصل الأول الارتباط العجيب بين لقمان كإنسان، والرسالة التي يقدمها للعالم:
- الحكمة ليست حكرًا على الأنبياء.
- والعلم ليس بالضرورة كثرة الرواية.
- والمعرفة الحقّة هي التي تقود صاحبها إلى الله، لا تلك التي تملأ العقل وتترك القلب خاويًا.
في هذا السياق، تعيد المؤلفة قراءة قصة لقمان مع ابنه، لتبيّن كيف تُبنى الحكمة من الداخل: من الإيمان، والإخلاص، واليقين، والنصح، والالتزام.
ثانيًا: العلم والمعلوم والعليم – ثلاثية الوجود الكبرى
يرتكز الكتاب على بنية معرفية أساسية تمثّل محورًا فلسفيًا وروحيًا: العلم – المعلوم – العليم.
1. العلم
توضح المؤلفة أن العلم في أصله نور وهداية قبل أن يكون معلومات.
فالعلم الذي لا يهدي صاحبه، ولا يصون خلقه، ولا يهذب سلوكه، هو علم ناقص.
وتستشهد المؤلفة بقول العلماء: “العلم ما نفع، وليس ما حُفظ.”
2. المعلوم
أما «المعلوم» فهو الكون، والحياة، والأسرار، وكل ما يحيط بالإنسان من ظواهر.
تؤكد المؤلفة أن المعلوم بحد ذاته لا قيمة له إن لم يكن مرتبطًا بالعليم سبحانه.
فالمعلوم هو أثر من آثار الخالق، والعلم به طريق لمعرفة العليم.
3. العليم
هو الله جلّ في علاه.
وتصف الدكتورة فراج هذا المقام بقولها إن العليم هو أصل العلوم كلها، وأن العبودية لا تكتمل إلا حين يدرك الإنسان أن العلم الحقيقي هو معرفة الله.
الثلاثية تتداخل مع بعضها عبر رحلة كتاب «لقمان والإمام»، لتصنع رؤية وجودية متكاملة، تجعل القارئ يعيش معنى: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”، بمعنى أن العلم الحقيقي يبدأ من الداخل.
ثالثًا: الإمام… المعنى والموقع والمقام
من الأسئلة التي يطرحها الكتاب: من هو الإمام في سياق العنوان؟
يتضح من منهج المؤلفة أن الإمام هنا ليس الإمام بمعناه الفقهي التقليدي فقط، وإنما هو القائد الروحي والمعرفي الذي:
- يُعلّم الناس الحكمة،
- ويقود العقول إلى الفهم،
- ويقرّب النفوس من الله،
- ويُظهر الفرق بين العلم الذي يُنجي والعلم الذي يُضل.
ويمتد مفهوم “الإمام” ليشمل:
- الإمام في العلم،
- الإمام في السلوك،
- الإمام في الحكمة،
- الإمام الذي يتقدم الناس إلى الصراط،
- والإمام الذي يقدّم منهجًا قائمًا على البصيرة.
وهنا يصبح كتاب «لقمان والإمام» مقاربة بين حكمة لقمان ومقام الإمامة، ليظهر كيف يمكن للحكمة أن تصنع إمامة صالحة، وكيف تتلاقى البصيرة الإلهية مع العقل الإنساني ليقود الإنسان إلى الطريق المستقيم.
رابعًا: الحكمة والمحكم والحكيم – البناء المعرفي في القرآن
العناوين الثلاثة التي يقدمها الكتاب تحمل دلالات لغوية وشرعية دقيقة:
1. الحكمة
الحكمة هي مركز الكتاب، وهي ليست مجرد معرفة، بل:
- إتقان،
- ورشد،
- وفهم،
- وميزان،
- ووضع الشيء في موضعه.
ترى المؤلفة أن الحكمة هي أعلى درجات العلم بعد الإيمان، وأن الله ذكر الحكمة في القرآن مقرونة بالكتاب.
2. المحكم
المحكم هو الثابت، والصحيح، والمتقن، والذي لا يتطرق إليه الشك.
والمحكم في القرآن هو الآيات الواضحة المعنى، التي تمثل أساسًا لفهم الرسالة.
تربط الدكتورة فراج بين المحكم في النص القرآني والمحكم في شخصية الإنسان، فكما أن النص يحتاج إلى إحكام، كذلك يحتاج الإنسان إلى ضبط وإتقان في سلوكه.
3. الحكيم
هو اسم من أسماء الله الحسنى، وهو مصدر كل حكمة.
فالحكيم هو الذي أحكم خلقه وأحكم شرعه.
وتُظهر المؤلفة أن الحكمة الحقيقية عند الإنسان ما هي إلا انعكاس لنور الحكيم سبحانه في قلب عبده.
بهذا يتشكّل البناء المفاهيمي للكتاب: الحكمة كمنهج، والمحكم كأساس، والحكيم كمصدر.
خامسًا: لقمان الحكيم – قراءة معرفية
يتناول الكتاب سيرة لقمان من خلال القرآن فقط، متجنبًا الروايات الضعيفة أو الأسطورية.
وتضع الدكتورة فراج رؤية جديدة لسورته ووصاياه على النحو الآتي:
1. وصايا لقمان لابنه – منهج حياة
ترى المؤلفة أن وصايا لقمان ليست مجرد نصائح أبوية، بل خطة تربوية متكاملة:
- توحيد الله
- شكر النعمة
- مراقبة الله
- إقامة الصلاة
- النهي عن المنكر
- الصبر
- التواضع
- حسن الخُلق
وتُظهر كيف أن هذه الوصايا تمثل أربع وحدات مترابطة:
- وحدة الإيمان،
- وحدة الأخلاق،
- وحدة السلوك،
- وحدة المجتمع.
2. الحكمة في مواجهة الجهل
توضح المؤلفة أن لقمان لم يكن نبيًا، ولكنه حكيمٌ أوتي قلبًا عاقلاً، وأن الحكمة في عصره كانت أعظم من القوة والسلطة.
3. النصح باللين
يبرز الكتاب طريقة لقمان في الخطاب:
- اللين،
- الرفق،
- التدرج،
- الحكمة،
- وضوح المنهج.
سادسًا: الإمام… بين العلم والبصيرة
يمتد التحليل لتوضيح أن “الإمام” هو صاحب العلم الذي يقود الناس للبصيرة، وأن العلم وحده لا يكفي لصنع إمامة، بل لا بد من الحكمة.
تشير المؤلفة إلى أن الإمام الحقيقي هو الذي:
- يتعامل مع النص بفهم،
- ومع الناس بصبر،
- ومع الواقع ببصيرة،
- ومع الله بإخلاص.
وتقارن بين نماذج الإمامة عبر التاريخ الإسلامي، لتبيّن الفرق بين «العالم» و«الحكيم» و«الإمام»، وتخلص إلى أن الإمام هو الكامل في ثلاثة جوانب:
- علمٌ صحيح
- حكمةٌ راسخة
- ورحمةٌ بالناس
وبذلك يلتقي الإمام مع لقمان في صفة الحكمة.
سابعًا: منهج الكتاب – بين الروح والفكر
يتميّز الكتاب بطابع تأملي يجعل القارئ يشعر أنه في جلسة روحية تحفها أنوار الحكمة.
اعتمدت الدكتورة فراج على منهج يجمع بين:
1. التفسير الموضوعي للقرآن
حيث تتناول الآيات المتعلقة بلقمان والحكمة والإمامة ضمن إطار عام يربط بين المفاهيم.
2. التحليل اللغوي
فالكتاب مليء ببيان الجذور اللغوية لكلمات مثل: الحكمة، المحكم، الحكيم، العليم، المعلوم.
3. البعد الفلسفي
تطرح المؤلفة أسئلة وجودية حول العلم والعقل والمصير، وتربطها بالنصوص.
4. الأسلوب الأدبي
الكتاب مكتوب بلغة راقية، شاعرية، عميقة، تُسهِم في نقل المعاني للقارئ دون أن تفقد عمقها.
ثامنًا: الرسالة الأساسية للكتاب – كيف نصبح حكماء؟
يقدّم الكتاب في فصوله رسالة محورية:
الحكمة ليست شيئًا يُورّث، بل شيء يُكتسب بمجاهدة النفس.
وتذكر المؤلفة مجموعة من الخطوات التي تصنع الحكمة، منها:
- الإخلاص في طلب الحق
- المداومة على الذكر
- تدبر القرآن
- تهذيب الأخلاق
- الصبر
- الصمت عند الجهل
- الشجاعة في قول الحق
- النظر في آيات الكون
وتخلص إلى أن الحكمة ليست نهاية الطريق، بل بدايته؛ إذ كلما ازداد الإنسان حكمةً، ازداد خشيةً لله.
تاسعًا: القيم التي يؤسس لها الكتاب
ينشر «لقمان والإمام» قيمًا تربوية وإنسانية رفيعة منها:
1. قيمة التواضع
فالحكيم لا يتكبر، والإمام لا يتعالى.
2. قيمة العلم النافع
العلم الذي يهدي ويصلح، لا الذي يثير الجدل.
3. قيمة المسؤولية
لقمان كان مسؤولًا عن ابنه، والإمام مسؤول عن الأمة.
4. قيمة الوعي
العلم بلا وعي عبء، والحكمة بلا وعي كيان ناقص.
5. قيمة الحرية الروحية
الإنسان الحكيم هو الذي يحرر نفسه من الشهوات والأهواء.
عاشرًا: أثر الكتاب في القارئ
يمتلك الكتاب قدرة على التأثير العاطفي والفكري معًا.
فهو يدفع القارئ إلى:
- إعادة فهم علاقته مع الله،
- إعادة تقييم علمه،
- إعادة النظر في سلوكه،
- البحث عن الحكمة في نفسه وواقعه.
وهو كتاب مناسب:
- للمتدين الباحث عن الحكمة،
- وللقارئ العام الراغب في تطوير ذاته،
- وللمهتم بالفلسفة الإسلامية،
- وللطالب الذي يبحث عن فهم أعمق للنص القرآني.
خاتمة
يأتي كتاب «لقمان والإمام: العلم والمعلوم والعليم والحكمة والمحكم والحكيم» كإضافة معرفية وروحية فريدة في زمن ازدحمت فيه المعلومات وقلّ فيه الفهم، وكَثُر فيه العلم وندرَت الحكمة.
يكشف الكتاب للقارئ أن الحكمة ليست رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية؛ وأن العلم ليس غاية، بل طريق إلى العليم سبحانه؛ وأن الإمامة ليست منصبًا، بل مسؤولية في فهم الحق وإيصاله للناس.
إنه كتاب يجمع بين نور القرآن وعمق الفلسفة وجمال اللغة، ويترك في القارئ أثرًا يستمر طويلاً بعد أن يطوي آخر صفحاته.
لمعرفة المزيد: رحلة الحكمة بين لقمان والإمام: قراءة معمّقة في العلم والوجود والإنسان



