كتب

رحلة في دهاليز الحكاية

مقدمة: حين يتحول الفن إلى ساحة صراع

في كل الأزمنة، كان الفن مرآة الإنسان، يعكس أحلامه وهواجسه، يروي قصصه وينسج خيوط وجوده في لوحة أو قصيدة أو نغمة. لكن هذه المرآة كثيرًا ما تعرّضت للانكسار أو التشويه، حين تمدّت إليها أيادي السلطة أو الأيديولوجيا. هنا بالضبط يتموضع كتاب “الاستلاب الفني: الدين، الثورة، الفن… لتدمير الفن” للمفكر والكاتب إسماعيل الأمين، الصادر سنة 2024 عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.

الكتاب لا يقدّم مجرد دراسة نقدية في الجماليات أو في تاريخ الفنون، بل يذهب أبعد من ذلك، ليكشف عن مكامن الاستلاب: كيف يُسلب الفن من جوهره، وكيف يتحوّل من أداة للحرية إلى وسيلة للهيمنة. ومنذ الصفحات الأولى، يُدرك القارئ أن المؤلف يخوض معركة فكرية جريئة، مسلّحًا برؤية نقدية حادة، وبوعي عميق بأزمة الفن في زمننا.

يكتب الأمين بلهجة صريحة، تُحاكي نبرة الفلاسفة الذين جمعوا بين الفكر والتمرّد، وكأنه يريد أن يصدم القارئ لا أن يُرضيه. ومن بين عباراته اللافتة:

“الفن الذي يتخلى عن ذاته في سبيل إرضاء الآخرين، لم يعد فنًا بل سلعة، ولم يعد إبداعًا بل استهلاكًا.”

بهذه الروح، يأخذنا الكتاب في رحلة عبر ثلاثة محاور رئيسية: الدين، الثورة، والفن وهو يدمّر نفسه.

المؤلف والسياق الفكري

إسماعيل الأمين ليس مجرد باحث يراقب من بعيد، بل هو مفكر ينغمس في الواقع، يقرأ الدين والثورة والفن كظواهر متشابكة، لا يمكن عزلها عن تاريخ المجتمعات العربية والعالمية. خلفيته الفكرية تتقاطع مع الفلسفة النقدية الغربية، خاصة مع مدرسة فرانكفورت التي تناولت قضايا الاغتراب والاستلاب، لكنها تنغرس في تربة الواقع العربي، حيث يتداخل الدين بالسياسة، والثورة بالحلم والانكسار، والفن بالسلطة والمال.

الكتاب يأتي في لحظة تاريخية حساسة، حيث تعيش المجتمعات العربية صراعًا محتدمًا بين الأصالة والحداثة، بين الحرية والرقابة، وبين الفن كقيمة جمالية والفن كأداة ترفيهية استهلاكية. وهذا ما يجعل العمل شديد الصلة بقضايا معاصرة.

الدين والفن: حين يتوارى الإبداع خلف القداسة

أولى محطات الكتاب هي العلاقة الملتبسة بين الدين والفن. يطرح الأمين سؤالًا صادمًا: هل يمكن أن يكون الدين قوة لتحرير الفن، أم أنه يتحول غالبًا إلى سلطة تحدّ من حريته؟

يستعرض الكتاب تاريخًا طويلًا من الرقابة الدينية على الفنون: من تحريم الموسيقى والرسم في بعض الفترات، إلى التضييق على المسرح والسينما في الأزمنة الحديثة. ويرى أن الدين حين يسعى إلى “تأطير” الفن يضعه في قوالب ضيقة، تحجب عنه جرأته في مساءلة الواقع.

لكن الأمين لا يكتفي بالإدانة، بل يحاول أن يضيء الجانب الآخر، حيث كان الدين في أحيان كثيرة مصدر إلهام للفن، سواء في فنون العمارة الإسلامية أو في الشعر الصوفي. إلا أن جوهر الأزمة، كما يراه، يكمن في تحوّل الدين من إلهام روحي إلى سلطة اجتماعية قمعية.

ويكتب في هذا السياق:

“حين يلبس الفن عباءة القداسة، يفقد لونه الخاص. إنه لا يعود يجرؤ على السؤال، ولا يغامر بالتجديد. يصبح ظلًا باهتًا لما يجب أن يكونه.”

بهذا الطرح، يضع الأمين يده على جرح قديم ومتجدد: كيف يمكن للفنان أن يوازن بين احترام المقدّس والحفاظ على حريته الإبداعية؟

الثورة والفن: بين الحلم والتوظيف

المحور الثاني من الكتاب يتناول العلاقة بين الثورة والفن. الثورة، كما يصفها الأمين، لحظة انفجار جماعي، تفتح المجال أمام الإبداع والحرية. في لحظاتها الأولى، تولّد الثورة أغاني الحرية، شعارات المقاومة، ورسوم الجدران التي تعبّر عن نبض الشارع.

لكن سرعان ما تتحوّل هذه الطاقة الإبداعية إلى أداة في يد السلطة الثورية ذاتها. فالثورة التي تبدأ بتحرير الفن، قد تنتهي إلى توظيفه في خدمة خطابها السياسي. وهنا يقع الفن في فخ جديد: يصبح لسان حال السلطة، بدل أن يكون صوت الناس.

يقدم الأمين أمثلة من التاريخ: كيف تحوّلت الجداريات المكسيكية بعد الثورة إلى أداة بروباغندا، وكيف استُخدم الفن في الاتحاد السوفييتي لتكريس الواقعية الاشتراكية، وكيف غنّت بعض الفنون العربية لشعارات سياسية سرعان ما فقدت معناها.

“الفن الثوري، حين يتوقف عن مساءلة الثورة نفسها، يفقد ثوريته. إنه يتحول إلى جوقة مديح لا تختلف عن جوقة السلطة القديمة.”

بهذه العبارة يلخّص الأمين المعضلة: الفن الذي يُختزل في شعارات الثورة لا يختلف كثيرًا عن الفن المروّج للدين أو المال. في الحالتين، يُسلب الفن استقلاله، ويغترب عن حقيقته.

الفن ضد ذاته: تدمير من الداخل

المحور الثالث والأكثر إثارة هو ما يسميه الأمين “تدمير الفن لذاته”. هنا لا يكون الدين ولا الثورة هما السبب، بل الفن نفسه حين يتحوّل إلى سلعة استهلاكية.

يرى الأمين أن أخطر أشكال الاستلاب هو حين يتحوّل الفنان إلى “مقاول جمال”، ينتج ما يريده السوق لا ما يريده وعيه. وحين تصبح المسارح ودور السينما ومعارض الفن مجرد فضاءات للبيع والشراء، يفقد الفن رسالته الأصلية.

ويكتب:

“الفن الذي يتخلّى عن صدقه ليواكب الموضة، ليس سوى إعلان تجاري بألوان زاهية.”

يستعرض الكتاب هنا أمثلة من الفن المعاصر، حيث يطغى عنصر “التسويق” على جوهر العمل الفني. وكأن الأمين يريد أن يذكّرنا بأن الخطر الأكبر لا يأتي من الخارج فقط (الدين أو الثورة)، بل من الداخل أيضًا: من فنان يرضى بأن يكون مجرد موظف عند السوق.

قراءة فلسفية: الفن والاغتراب

من الناحية الفلسفية، ينتمي الكتاب إلى تيار نقدي يرى أن الفن يعيش حالة اغتراب شبيهة بما وصفه كارل ماركس عن العمال في النظام الرأسمالي. فالعمل الفني حين يُسلب من مبدعه ويُحوَّل إلى سلعة، يفقد جوهره الأصيل.

يتقاطع الأمين هنا مع أفكار هربرت ماركوز عن “الإنسان ذو البعد الواحد”، حيث يتحول الفن إلى ترفيه يكرّس الاستهلاك بدل أن يفتح آفاق الوعي. كما نجد أثرًا من أدورنو الذي انتقد “صناعة الثقافة” في المجتمعات الحديثة.

لكن قوة الكتاب تكمن في أنه لا يكتفي باستدعاء هذه النظريات، بل يربطها بالواقع العربي: كيف يُستخدم الدين لتكميم الفن، وكيف تحوّلت الثورات العربية إلى قوة تُسخّر الفن بدل أن تحرّره، وكيف استسلم الفن التجاري لسطوة السوق.

انعكاسات معاصرة: من السينما إلى الإعلام

يخصّص الأمين جزءًا من كتابه لقراءة الفن المعاصر، خاصة في السينما والموسيقى والإعلام. يشير إلى أن كثيرًا من الإنتاجات الفنية اليوم تسقط في فخ التسليع، حيث يصبح المعيار هو حجم الأرباح وعدد المشاهدات، لا القيمة الجمالية أو الفكرية.

ويكتب في هذا السياق:

“الفن الذي يلهث وراء جمهور بلا رسالة، ينتهي إلى جمهور يلهث وراء فراغ.”

لكن رغم قتامة المشهد، يترك الأمين نافذة أمل: فهناك دائمًا فنانون يرفضون الاستلاب، يصرّون على أن يظل الفن صوتًا للإنسان، لا مجرد صدى للسوق أو السلطة.

خاتمة: الدروس المستفادة

يخرج القارئ من الكتاب بشعور مزدوج: من جهة، مرارة الواقع حيث يتعرض الفن لاستلاب قاسٍ من الدين، من الثورة، ومن نفسه. ومن جهة أخرى، أمل في أن يظل الفن قادرًا على استعادة ذاته، ما دام هناك مبدعون يرفضون الخضوع.

الرسالة الأساسية التي يريد الأمين إيصالها هي أن الفن الحقيقي لا يُختزل في قداسة ولا في شعار ولا في سلعة. إنه فعل حرية، لا يقبل الوصاية، ولا يرضى بالبيع.

وبهذا، فإن كتاب “الاستلاب الفني” لا يقدّم مجرد نقد أكاديمي، بل يفتح نقاشًا فلسفيًا وإنسانيًا عميقًا حول معنى الفن ودوره في حياتنا.

 

لمعرفة المزيد: رحلة في دهاليز الحكاية

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى