قصص

رسائل الشوق وأصداء الفراق في ليل الحنين.. الليلة ٥٨

 

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن التاجر لما تسلَّم الجارية من البدوي، وضع عليها شيئًا من ثيابه، ومضى بها إلى منزله، وألبسها أفخر الملبوس، ثم أخذها ونزل بها إلى السوق، وأخذ لها مصاغًا ووضعه في بقجة من الأطلس، ووضعها بين يديها وقال لها: هذا كله من أجلك، ولا أريد منك إلا إذا طلعتُ بك إلى السلطان والي دمشق أن تُعلِميه بالثمن الذي اشتريتكِ به، وإن كان قليلًا في ظفرك، وإذا اشتراكِ مني فاذكري له ما فعلتُ معكِ، واطلبي لي منه مرسومًا سلطانيًا بالوصية عليّ، لأذهب به إلى والده صاحب بغداد الملك عمر النعمان، لأجل أن يمنع من يأخذ مني مَكسًا على القماش أو غيره من جميع ما أتَّجر فيه.

فلما سمعت كلامه بكت وانتحبت، فقال لها التاجر: يا سيدتي، إني أراك كلما ذكرتُ لكِ بغداد تدمع عيناك، ألكِ فيها أحد تحبينه؟ فإن كان تاجرًا أو غيره فأخبريني، فإني أعرف جميع من فيها من التجار وغيرهم، وإن أردتِ رسالة فأنا أوصلها إليه.

فقالت: والله ما لي معرفة بتاجر ولا بغيره، وإنما لي معرفة بالملك عمر النعمان صاحب بغداد.

فلما سمع التاجر كلامها ضحك وفرح فرحًا شديدًا، وقال في نفسه: والله إني وصلت إلى ما أريد. ثم قال لها: هل عُرِضتِ عليه سابقًا؟
فقالت: لا، بل تربَّيتُ وأنا بنته، فكنتُ عزيزةً عنده، ولي عنده حرمة كبيرة، فإن كان غرضك أن الملك عمر النعمان يكتب لك ما تريد، فَائْتِنِي بدواةٍ وقرطاسٍ، فإني أكتب لك كتابًا، فإذا دخلتَ مدينة بغداد فسلِّم الكتاب من يدك إلى يد الملك عمر النعمان، وقل له: إن جاريتك نزهة الزمان قد طرقتها صروف الليالي والأيام حتى بيعت من مكانٍ إلى مكان، وهي تُقرئك السلام، وإذا سألك عني فأخبره أني عند نائب دمشق.

فتعجب التاجر من فصاحتها، وازدادت عنده محبتها، وقال: ما أظن إلا أن الرجال لعبوا بعقلك، وباعوكِ بالمال. فهل تحفظين القرآن؟

قالت: نعم، وأعرف الحكمة، والطب، ومقدمة المعرفة، وشرحتُ فصول بقراط لجالينوس الحكيم وشرحه أيضًا، وقرأتُ التذكرة، وشرحتُ البرهان، وطالعتُ مفردات ابن البيطار، وتكلمتُ على القانون لابن سينا، وحللتُ الرموز، ووضعتُ الأشكال، وتحدثتُ في الهندسة، وأتقنتُ حكمة الأبدان، وقرأتُ كتب الشافعية، وقرأتُ الحديث والنحو، وناظرتُ العلماء، وتكلمتُ في سائر العلوم، وألَّفتُ في علم المنطق والبيان، والحساب والجدل، وأعرف الروحاني والميقات، وفهمتُ هذه العلوم كلها.

ثم قالت: ائتني بدواةٍ وقرطاسٍ حتى أكتب لك كتابًا يُسلِّيـك في الأسفار، ويُغنيك عن مجلدات الأسفار.

فلما سمع التاجر منها هذا الكلام صاح: “بَخٍ بَخٍ! فيا سعدَ من تكونين في قصره!” ثم أتاها بدواةٍ وقرطاسٍ وقلمٍ من نحاس. فلما أحضر التاجر ذلك بين يديها قبَّل الأرض تعظيمًا لها، فأخذت نزهة الزمان الدرج وتناولت القلم وكتبت في الدرج هذه الأبيات:

 

مَا بَالُ نَوْمِيَ مِنْ عَيْنِي قَدْ نَفَرَا
أَأَنْتَ عَلَّمْتَ طَرْفِي بَعْدَكَ السَّهَرَا؟

وَمَا لِذِكْرِكَ يُذْكِي النَّارَ فِي كَبِدِي
أَهَكَذَا كُلُّ صَبٍّ لِلْهَوَى ذُكِرَا؟

سُقْيَاً لِأَيَّامِنَا مَا كَانَ أَطْيَبَهَا
مَضَتْ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَطَرَا

أَسْتَعْطِفُ الرِّيحَ، إِنَّ الرِّيحَ حَامِلَةٌ
إِلَى الْمُتَيَّمِ مِنْ أَكْنَافِكُمْ خَبَرَا

يَشْكُو إِلَيْكَ مُحِبٌّ قَلَّ نَاصِرُهُ
وَلِلْفِرَاقِ خُطُوبٌ تَصْدَعُ الْحَجَرَا

ثم إنها لما فرغت من كتابة هذا الشعر، كتبت بعد ذلك هذا الكلام وهي تقول:

“مِمَّنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْفِكْرُ، وَأَنْحَلَهَا السَّهَرُ، فَظُلْمَتُهَا لَا تَجِدُ لَهَا مِنْ أَنْوَار، وَلَا تَعْلَمُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَار، وَتَتَقَلَّبُ عَلَى مَرَاقِدِ الْبَيْنِ، وَتَكْتَحِلُ بِمَرَاوِدِ الْأَرَقِ، وَلَمْ تَزَلْ لِلنُّجُومِ رَقِيبَةً، وَلِلظَّلَامِ نَقِيبَةً، أَذَابَهَا الْفِكْرُ وَالنُّحُولُ، وَشَرْحُ حَالِهَا يَطُولُ، لَا مُسَاعِدَ لَهَا غَيْرَ الْعَبَرَات.”

وأنشدت هذه الأبيات:

مَا غَرَّدَتْ سَحَرًا وَرْقَاءُ فِي فَنَنِ
إِلَّا تَحَرَّكَ عِندِي قَاتِلُ الشَّجَنِ

وَلَا تَأَوَّهَ مُشْتَاقٌ بِهِ طَرَبٌ
إِلَى الأَحِبَّةِ إِلَّا ازْدَدْتُ فِي حَزَنِي

أَشْكُو الْغَرَامَ إِلَى مَنْ لَيْسَ يَرْحَمُنِي
كَمْ فَرَّقَ الْوَجْدُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ

فلما كانت الليلة الثامنة والخمسون،
أفاضت دموع العين، وكتبت أيضًا هذين البيتين:

أَبْلَى الْهَوَى أَسَفًا يَوْمَ النَّوَى بَدَنِي
وَفَرَّقَ الْهَجْرُ بَيْنَ الْجَفْنِ وَالْوَسَنِ

كَفَى بِجِسْمِي نُحُولًا إِنَّنِي دَنِفٌ
لَوْلَا مُخَاطَبَتِي إِيَّاكَ لَمْ تَرَنِي

وبعد ذلك كتبت في أسفل الدرج:

“هذا من عند البعيدة عن الأهل والأوطان، الحزينة القلب والجَنان؛ نُزْهَةُ الزَّمَان.”

ثم طَوَتِ الدرج، وناولته للتاجر، فأخذه وقبَّله، وعرف ما فيه، ففرح وقال:
“سبحان من صوَّركِ!”

وأدرك شهرزادَ الصباحُ، فسكتت عن الكلام المباح.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى