رواية "سارقة الكتب" – قصة من قلب الألم تُروى على لسان الموت

في زحمة الأدب العالمي، تطل علينا رواية The Book Thief (سارقة الكتب) كواحدة من أعمق وأشدّ الروايات الإنسانية تأثيرًا في القرن الحادي والعشرين، وهي من تأليف الكاتب الأسترالي ماركوس زوساك (Markus Zusak)، وقد نُشرت لأول مرة عام 2005 باللغة الإنجليزية. تنتمي الرواية إلى فئة الأدب التاريخي الموجّه للناشئة والبالغين على حد سواء، لكنها سرعان ما تجاوزت تصنيفها لتصبح من كلاسيكيات الأدب الحديث. تُرجمت إلى أكثر من 40 لغة، وبيعت منها ما يفوق 16 مليون نسخة حول العالم، ونالت عدة جوائز مرموقة منها جائزة مايكل إل. برينتز للشباب، وجائزة الكتاب الأسترالي.
ما يجعل الرواية مميزة على نحو استثنائي ليس فقط موضوعها أو شخصياتها، بل راويها: الموت نفسه. نعم، الموت يروي الحكاية، لكنّه لا يكون مخيفًا أو مرعبًا، بل تأمليًا، شاعريًا، يحمل الحزن والدهشة على الإنسانية في آنٍ واحد.
بين سماء ميونخ وقلب فتاة: قصة تُروى من زمن الحرب
في قلب ألمانيا النازية، عام 1939، تبدأ حكاية ليزل ميمِنغِر، الطفلة الصغيرة التي لا تعرف أن حياتها على وشك أن تتغير إلى الأبد. لم تكن تعرف معنى الكلمات، ولم تكن تملك كتابًا واحدًا، لكنها ستصبح، يومًا ما، سارقة كتب من طراز فريد.
في قطار يُقلّها مع شقيقها الصغير إلى منزلٍ بديل، يفارقها شقيقها الحياة فجأة. وبينما يُدفن على عجل، تسقط من حقيبة أحد حفّاري القبور كتاب صغير بعنوان “دليل حفار القبور”. لم تفهم ليزل ما في الصفحات، لكنها، دون وعي، سرقته — هكذا بدأت صداقتها الأولى مع الكلمات.
نُقلت ليزل إلى شارع هيمِل، حيث استقبلها الزوجان هانز وروزا هوبرمان. كان هانز رجلاً بسيطًا حنونًا، يعزف على الأكورديون ويملك قلبًا يشبه الطفل. روزا، على النقيض، امرأة قاسية في ظاهرها، كثيرة السباب، لكنها تخفي خلف ذلك حبًا غير مشروط. هناك، في بيت الهوبرمان، ستتعلّم ليزل كيف تنجو في زمن لا يرحم.
الكتب كطوق نجاة
بدأ هانز بتعليم ليزل القراءة ليلًا، في قبو مظلم، حيث الحروف تُنسج كتعويذة ضد الخوف. صارت الكتب عالمها الموازي. لم تكن ليزل تسرق النقود أو الطعام، بل الكتب: من بين رماد المحارق التي نظمها النازيون، ومن مكتبة زوجة عمدة المدينة، حيث كانت تتسلل خفية، تقرأ، وتحمل كتابًا جديدًا في كل مرة.
الكلمات تحوّلت إلى سلاح، إلى ملاذ، إلى أداة مقاومة. فبينما العالم يحترق من حولها، كانت ليزل تبني جدارًا من الحروف يحمي قلبها من التصدّع.
صديق في الجوار وشبح في القبو
وفي شارع هيمِل، لم تكن ليزل وحدها. كان هناك رودي شتاينر، الصبي الأشقر الذي أحبها حبًا صامتًا، وجعلها تضحك في عز المآسي. كان يحلم بأن يصبح عدّاءً مثل جيسي أوينز، الأسود الذي صفع النازية في أولمبياد برلين، فصبغ وجهه بالفحم وجعل من الشوارع مضمارًا.
أما في قبو المنزل، فقد استقر شبحٌ حقيقي: ماكس فاندنبيرغ، شاب يهودي هارب، أودعه هانز عنده وفاءً لوعد قديم. في الظل وتحت الأرض، نشأت بينه وبين ليزل صداقة فريدة من نوعها. كان ماكس يكتب لها القصص، يرسم لها الأحلام، ويخبرها أن الكلمات قد تكون أعظم من السيوف.
ذروة الألم وسقوط السماء
ومع تقدّم الحرب، تتغير الحياة في شارع هيمِل. الغارات الجوية تشتد، الجوع يُنهك الأجساد، النازية تزداد وحشية. وفي ذروة الحدث، بينما كانت ليزل في القبو تقرأ بصوت خافت لحماية من حولها من الرعب، سقطت قنبلة.
مات الجميع. رودي، روزا، هانز، الجيران… ومرة أخرى، نجت ليزل وحدها.
الموت، راوي القصة، يقول إنه لم يرَ قلبًا أنقى من قلب هذه الفتاة، ولا وجعًا أعظم من وجعها حين احتضنت جثة رودي، وقبّلته، للمرة الأولى… والأخيرة.
النهاية… وبداية جديدة
بعد الحرب، تُنقذ ليزل، وتعيش سنوات طويلة في مدينة أخرى. تقابل الموت مرة أخيرة، حين يأتي لأخذ روحها، لكنه يخبرنا: “رأيت أسوأ ما في البشر… ورأيت أيضًا الأفضل. وهذا ما وجدته في قلب ليزل ميمينغر.”
رواية The Book Thief ليست مجرد قصة فتاة تتعلم القراءة في زمن القهر، بل هي رسالة حب للحياة، للغة، للإنسان، وسط أبشع فصول التاريخ.
الأعمال الفنية المقتبسة عن الرواية
تم اقتباس الرواية إلى فيلم سينمائي يحمل نفس العنوان The Book Thief عام 2013، من إخراج براين بيرسيفال (Brian Percival)، وسيناريو مايكل بيتروني (Michael Petroni).
قامت بدور ليزل الممثلة الشابة صوفي نيليس (Sophie Nélisse)، وأدى دور هانز ببراعة الممثل القدير جيفري راش (Geoffrey Rush)، بينما جسّدت إميلي واتسون (Emily Watson) شخصية روزا.
حقق الفيلم نجاحًا متوسطًا من حيث الإيرادات، إذ جمع حوالي 76 مليون دولار عالميًا، مقارنةً بميزانية تقديرية قدرها 19 مليونًا. لكنّه لاقى ترحيبًا دافئًا من جمهور الرواية.
- تقييمه على IMDb: 7.5/10
- وعلى Rotten Tomatoes: 47% نقديًا، و73% من الجمهور
رُشّح الفيلم لجائزة الأوسكار عن أفضل موسيقى تصويرية، من تأليف الأسطورة جون ويليامز، الذي أضفى نغمة حالمة حزينة على مشاهد الفيلم.
تحليل الأصداء: بين الكلمات والصورة
رغم أن بعض النقّاد رأوا أن الفيلم لم يرقَ إلى مستوى الرواية من حيث العمق الفلسفي والبُعد الشعري، إلا أن أداء الممثلين، لا سيما الطفلة صوفي نيليس وجيفري راش، لقي إشادة واسعة.
اعتبر البعض أن سرد الرواية عبر صوت “الموت” كان تحديًا صعبًا ترجمته الشاشة بطريقة خافتة مقارنةً بالقوة الأدبية للنص الأصلي. لكن الفيلم نجح في تسليط الضوء على الجوهر الإنساني للقصة، وفتح الباب أمام جمهور جديد لاكتشاف الرواية.
وفي الواقع، ساهم الفيلم في زيادة مبيعات الرواية عالميًا، ووسّع دائرة قرّائها، خاصةً في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وأعاد تسليط الضوء على موضوعات مهمة كقيمة الكلمة، والحياد الأخلاقي، والمقاومة الصامتة.
كلمة أخيرة: حين تتحدث الكتب وتُصغي الأرواح
رواية سارقة الكتب ليست فقط عن الحرب، ولا فقط عن طفلة تتعلم القراءة. إنها عن قوة اللغة وسط العنف، وعن الأطفال وسط الخراب، وعن الموت حين يكون راويًا حنونًا.
نجح ماركوس زوساك في تقديم عمل أدبي يجمع بين الشعر والسرد والدراما التاريخية، ليحفر في الذاكرة الإنسانية قصّة لا تُنسى. كل كلمة في الرواية هي شهادة حب للحياة رغم سواد الموت. وكل صفحة، من الصفحة الأولى حتى الأخيرة، تقول شيئًا بسيطًا وعميقًا:
الكلمات تنقذنا… أحيانًا.
هل رأيت كتابًا يُسرق ليُنقذ أرواحًا؟
ليزل ميمينغر فعلت ذلك، وخلّدت اسمها في الأدب العالمي إلى الأبد.