سير

ريتشارد لورنس ميلينجتون سينجي: كيميائي من زمن الاكتشاف

المقدمة: عبقرية فصلت العالم على أعمدة العلم

في منتصف القرن العشرين، حين كانت المختبرات تعجُّ بالأنابيب الزجاجية والمحاليل الغامضة، برز اسم العالم البريطاني ريتشارد لورنس ميلينجتون سينجي (Richard Laurence Millington Synge) كأحد أعظم من غيروا وجه الكيمياء الحيوية الحديثة.
لم يكن مجرد كيميائي تقليدي، بل كان مغامرًا علميًا حمل في قلبه شغف الاكتشاف ودقّة الباحث الذي يرى في كل جزيء قصة جديدة. ومع زميله آرتشر جون بورتون مارتن، قدّم سينجي للعالم طريقة الفصل الكروماتوغرافي، وهي تقنية فتحت الباب لفهم أسرار البروتينات والأحماض الأمينية، وغيّرت إلى الأبد طريقة تعامل العلماء مع المادة الحية.
حياة ريتشارد سينجي ليست مجرد سرد لتجارب في المختبر، بل هي حكاية عن شغف بالعلم ومثابرة ضد كل العوائق، عن عالمٍ حمل حلمًا صغيرًا فحوّله إلى إنجازٍ غير وجه الكيمياء إلى الأبد.

النشأة والتكوين: جذور المعرفة في أرض بريطانيا

وُلد ريتشارد لورنس ميلينجتون سينجي في مدينة ليفربول البريطانية بتاريخ 28 أكتوبر 1914، في أسرة عريقة تهتم بالعلم والأدب معًا. كان والده يعمل في مجال الهندسة، ووالدته من محبي الأدب الكلاسيكي، مما جعل الطفل الصغير يعيش بين منطق الرياضيات وسحر اللغة.
نشأ سينجي في بيئة محفزة على الفضول والمعرفة. منذ صغره، أبدى اهتمامًا فريدًا بالكيمياء؛ كان يقضي ساعات طويلة في مزج المواد البسيطة وتحليل الظواهر التي يراها أمامه. في سن العاشرة، حصل على أول كتاب علمي في الكيمياء، وصرّح حينها لأمه قائلاً:

“سأجد يومًا طريقة لفهم ما لا يُرى بالعين.”

كانت تلك الجملة الصغيرة بمثابة النبوءة التي ستحققها الأيام لاحقًا. في مدرسته الابتدائية، لفت أنظار معلميه بسرعة بذكائه وقدرته على التفكير التحليلي. أما في سنوات المراهقة، فقد بدأت ميوله العلمية تتبلور بشكل جدي نحو دراسة التركيب الكيميائي للكائنات الحية.

التعليم وبداية التكوين المهني: من كامبريدج تبدأ الحكاية

التحق ريتشارد سينجي بجامعة كمبريدج العريقة، حيث درس الكيمياء الطبيعية في كلية ترينيتي الشهيرة، وتخرج عام 1936 بتقدير متميز.
في أروقة كمبريدج، وجد نفسه محاطًا بعقول لامعة وعلماء شباب يتنافسون في البحث والاكتشاف. إلا أن سينجي كان مختلفًا؛ لم يكن يسعى إلى الأضواء بقدر ما كان يسعى إلى الفهم.
اختار أن يتخصص في دراسة الببتيدات والأحماض الأمينية، تلك اللبنات الأساسية للحياة التي كانت آنذاك غامضة وغير مفهومة تمامًا. تأثر بشكل كبير بأعمال العالِم السويدي تورالد سوردستروم حول فصل المركبات الحيوية، وهو ما ألهمه بفكرة تطوير طريقة أكثر دقة في تحليل هذه المواد.

بعد حصوله على درجته الجامعية، انضم إلى مركز أبحاث البروتينات في كمبريدج كزميل باحث، وهناك بدأ بوضع اللبنات الأولى لاختراعه الثوري.

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى: طريق صعب نحو النور

كانت بدايات سينجي المهنية مليئة بالتحديات. في أواخر الثلاثينيات، كانت بريطانيا تمر بفترة اقتصادية صعبة مع تزايد التوترات قبل الحرب العالمية الثانية، ولم يكن الحصول على تمويل للبحوث أمرًا سهلًا.
لكنه أصر على المضي قدمًا، وأمضى ساعات طويلة في المختبر، يجرّب ويخفق ثم يعيد المحاولة. كان يؤمن أن الطريقة التقليدية في تحليل البروتينات معقدة وبطيئة، وأنه يمكن تطوير وسيلة جديدة تعتمد على الامتصاص والفصل عبر الأعمدة، وهي الفكرة التي ستتحول لاحقًا إلى الكروماتوغرافيا.

في عام 1941، انتقل إلى مختبرات ليستر بيركنز حيث التقى بالعالم آرتشر جون بورتون مارتن، لتبدأ بينهما واحدة من أنجح الشراكات العلمية في القرن العشرين.
تعاون الاثنان لتطوير طريقة تسمح بفصل مكونات المركبات العضوية الحيوية، مستفيدين من مبادئ فيزيائية دقيقة تتعلق بامتصاص الجزيئات وانتقالها عبر مواد صلبة.
كانت تجاربهما الأولى بسيطة، لكنها قادت إلى ولادة طريقة جديدة ستغير الكيمياء الحيوية إلى الأبد.

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي: ثورة الكروماتوغرافيا

في عام 1944، أعلن سينجي ومارتن رسميًا عن اختراعهما لطريقة الفصل الكروماتوغرافي باستخدام السائل والغاز، والتي مكّنت العلماء من تحليل البروتينات والأحماض الأمينية بدقة غير مسبوقة.
جاء هذا الاكتشاف في زمن كانت فيه دراسة المادة الحية ما تزال محدودة بالأدوات المتاحة. فقد مكّنت هذه التقنية من فصل مكونات معقدة جدًا مثل الأحماض الأمينية التي تشكل البروتينات، وهو ما فتح الطريق أمام فهم أسرار الحمض النووي DNA والإنزيمات لاحقًا.

قال سينجي ذات مرة في إحدى مقابلاته العلمية:

“كل جزيء يحمل قصة؛ والفصل الكروماتوغرافي هو فن اكتشاف تلك القصة.”

لقد كان لا يرى في الكيمياء مجرد أرقام ومعادلات، بل حكايات كيميائية تتحدث عن أصل الحياة وتوازنها.
بفضل اختراعهما، أصبحت الكروماتوغرافيا أداة لا غنى عنها في الأبحاث البيولوجية والطبية والصيدلانية، واستُخدمت لاحقًا في تحليل الدم، والكشف عن الأدوية، وتطوير المضادات الحيوية.

الجوائز والتكريمات الكبرى: تتويج المستحقين

في عام 1952، مُنح ريتشارد سينجي وآرتشر مارتن جائزة نوبل في الكيمياء “تقديرًا لاكتشافهما طرقًا جديدة للفصل الكروماتوغرافي وتحليل المركبات الحيوية المعقدة”.
كان عمر سينجي حينها 38 عامًا، مما جعله أحد أصغر الحاصلين على الجائزة في ذلك الوقت.
حضر الحفل في ستوكهولم وسط تصفيق العلماء من مختلف دول العالم، وألقى كلمة مؤثرة قال فيها:

“إن العلم لا يتقدم إلا حين نتوقف عن الخوف من المجهول، ونمد أيدينا إليه بثقة الباحث وفضول الطفل.”

لم تكن نوبل هي الجائزة الوحيدة في مسيرته؛ فقد حصل على زمالة الجمعية الملكية البريطانية (FRS)، وجوائز أخرى من مؤسسات علمية مرموقة في أوروبا وأمريكا تقديرًا لإسهاماته.

التحديات والمواقف الإنسانية: عالم يبحث عن المعنى

على الرغم من شهرته العالمية، كان سينجي معروفًا بتواضعه الشديد وابتعاده عن الأضواء. كان يصف نفسه بأنه “عامل بسيط في حقل الحقيقة”.
خلال الحرب العالمية الثانية، عمل في مشروعات علمية لخدمة بلاده، لكنه رفض المشاركة في أي مشروع قد يستخدم العلم لأغراض تدميرية، مؤكدًا أن “العلم يجب أن يظل خادمًا للحياة لا سيدًا عليها”.
تعرّض خلال مسيرته لانتقادات من بعض زملائه الذين اعتبروا أن طريقته في البحث مفرطة في التجريب وقليلة التنظير، لكنه كان يرد بابتسامة:

“كل نظرية وُلدت من تجربة ناجحة، فلنستمر في التجربة إذًا.”

الإرث والتأثير المستمر: بصمة لا تمحى من تاريخ الكيمياء

اليوم، وبعد مرور عقود على رحيله، ما تزال طريقة سينجي ومارتن حجر الأساس في معظم التحاليل الكيميائية الحديثة.
من مختبرات الأدوية إلى أبحاث البيئة، ومن دراسات الجينات إلى تحليل الأغذية، يستمر إرثه العلمي في كل مكان.
لقد أسّس سينجي جسرًا بين الكيمياء النظرية والتطبيق العملي، وعلّم الأجيال أن الاكتشاف العلمي الحقيقي لا ينتهي عند المختبر، بل يبدأ منه نحو خدمة الإنسان.
رحل عن العالم في 18 أغسطس 1994، لكنه ترك وراءه إرثًا علميًا خالدًا يدرس حتى اليوم في الجامعات حول العالم.

الجانب الإنساني والشخصي: العالم الذي أحب الحياة البسيطة

بعيدًا عن المختبرات، كان ريتشارد سينجي إنسانًا محبًا للطبيعة والقراءة. عاش حياته في تواضع، وفضّل حياة الريف الإنجليزي الهادئة.
كان يشارك في مبادرات بيئية محلية، ويؤمن بأن العلم والطبيعة وجهان لجمال واحد.
كما كان مهتمًا بالثقافة والأدب، ويقرأ للشعراء الإنجليز الكلاسيكيين، وكان يقول:

“الكيمياء والشعر يشتركان في شيء واحد: كلاهما يبحث عن التوازن.”

عرف عنه أيضًا كرمه مع طلابه وباحثيه، إذ كان يشجعهم على التفكير بحرية، ويرى أن العالم الحقيقي هو من يطرح الأسئلة لا من يحفظ الإجابات.

الخاتمة: دروس من حياة ريتشارد سينجي

من خلال سيرة ريتشارد لورنس ميلينجتون سينجي، نتعلم أن الشغف بالعلم قد يصنع من التجربة العادية اكتشافًا غيّر العالم.
لم يكن طريقه سهلًا، لكنه كان مليئًا بالإصرار والرغبة في الفهم.
لقد أثبت أن البحث عن الحقيقة ليس مجرد مسار أكاديمي، بل هو رحلة إنسانية نحو الضوء.
رحل سينجي، لكن طريقته في الفصل لم تفصل فقط المواد الكيميائية، بل جمعت بين العلم والإنسانية في معادلة واحدة: أن المعرفة لا تكتمل إلا عندما تخدم الحياة.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى