سير

سيرة أتوري إلماري فيرتانين: الكيميائي الذي أطعم العالم بالعلم

 المقدمة: رحلة علمية أنقذت الغذاء

في القرن العشرين، حين كانت الحروب والأزمات الغذائية تهدد بقاء الملايين، ظهر عالم فنلندي هادئ الطبع اسمه أتوري إلماري فيرتانين (Artturi Ilmari Virtanen) ليقدم اختراعًا غيّر وجه الزراعة والغذاء. بفضل عبقريته في الكيمياء، طوّر طرقًا مبتكرة لحفظ الأعلاف وحماية القيمة الغذائية للمنتجات الزراعية. نال عن ذلك جائزة نوبل في الكيمياء عام 1945، وأصبح اسمه مرادفًا لإنقاذ الأمن الغذائي في أوروبا والعالم.

هذه ليست مجرد سيرة ذاتية لعالم كيمياء؛ إنها قصة إنسان آمن بأن العلم يمكن أن يكون سلاحًا ضد الجوع، وأن المختبر يمكن أن يصنع ثورة في حياة الفلاحين والفقراء قبل أن يصنع مجدًا أكاديميًا.

النشأة والتكوين

وُلد أتوري إلماري فيرتانين في 15 يناير 1895 ببلدة صغيرة تُدعى هولولا في فنلندا، في أسرة متواضعة الحال. كان والده موظفًا بسيطًا في البريد، فيما كرّست والدته جهدها لتربية الأبناء وتعليمهم قيمة العمل والانضباط.

نشأ فيرتانين في بيئة ريفية، حيث لمس عن قرب أهمية الزراعة ومشقة الفلاحين. وقد شكّلت هذه التجربة المبكرة نظرته للعالم، وربما زرعت فيه البذور الأولى لشغفه بالعلم التطبيقي الذي يخدم حياة الناس.

منذ طفولته، كان يُعرف بفضوله اللامحدود وحبّه للكتب. يروى أنه كان يقضي ساعات طويلة يراقب التغيرات في الطبيعة، ويجري تجاربه الصغيرة باستخدام أدوات بسيطة في المنزل.

التعليم وبداية التكوين المهني

التحق فيرتانين بجامعة هلسنكي عام 1913 لدراسة الكيمياء والبيولوجيا. وقد كانت تلك السنوات مليئة بالاضطرابات السياسية، إذ كانت فنلندا تعيش توترات الحرب العالمية الأولى والاستقلال عن روسيا. رغم ذلك، لم يتوقف عن الدراسة والبحث العلمي.

حصل على درجة الدكتوراه في الكيمياء عام 1918، وكان موضوع أطروحته يدور حول العمليات الحيوية في النباتات. تميّزت أبحاثه المبكرة بالتركيز على الكيمياء الزراعية، وهو المجال الذي أصبح لاحقًا بصمته الكبرى في العالم.

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

بدأ فيرتانين حياته المهنية باحثًا في مختبرات صغيرة بجامعة هلسنكي، ثم انتقل للعمل في معهد البحوث الكيميائية الفنلندي. كانت التحديات هائلة: نقص الموارد، وضع اقتصادي صعب بعد الحرب، وشكوك بعض زملائه الذين لم يروا في الكيمياء الزراعية مجالًا واعدًا.

لكن عناده العلمي دفعه إلى الاستمرار. في العشرينيات من القرن الماضي، بدأ يركز على مشكلة فساد الأعلاف الحيوانية. كان الفلاحون في فنلندا يعانون من ضياع كميات كبيرة من المحاصيل بسبب تلفها قبل أن تصل إلى المواشي. هذا التحدي كان الشرارة التي دفعت فيرتانين نحو أعظم إنجازاته.

 

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

 اختراع “طريقة فيرتانين” (AIV Method)

في عام 1929، أعلن فيرتانين عن ابتكاره الثوري: طريقة AIV لحفظ الأعلاف، وهي طريقة تعتمد على إضافة أحماض غير مكلفة مثل حمض الفورميك أو حمض الكبريتيك إلى الأعلاف الخضراء لحمايتها من التخمر الضار.
بهذا الاكتشاف، تمكن المزارعون من تخزين الأعلاف لفترات طويلة دون فقدان قيمتها الغذائية، مما حسّن إنتاج الحليب واللحوم بشكل غير مسبوق.

الأثر العملي

  • قبل اختراعه، كانت خسائر الأعلاف في شمال أوروبا تصل إلى 30–40% من الإنتاج.
  • بعد انتشاره، انخفضت هذه النسبة بشكل كبير، وازدادت كفاءة الإنتاج الزراعي.
  • انتشرت طريقته في مختلف أنحاء أوروبا والعالم، وأصبحت أداة أساسية في الزراعة الحديثة.

يقول فيرتانين: “العلم ليس رفاهية نظرية، بل وسيلة لحل مشاكل الحياة اليومية.”

 أبحاث فيتامين C وحفظ الغذاء

لم يتوقف عند الأعلاف؛ فقد أجرى أبحاثًا رائدة في مجال الفيتامينات، خصوصًا فيتامين C، وعمل على إيجاد طرق للحفاظ على الأغذية الغنية بالفيتامينات أثناء التخزين والتجهيز. هذه الدراسات ساهمت في تحسين الصحة العامة وتقليل الأمراض الناتجة عن سوء التغذية.

التكريمات والجوائز الكبرى

ذروة التكريم جاءت عام 1945، حين حصل فيرتانين على جائزة نوبل في الكيمياء عن أعماله في الزراعة والكيمياء الحيوية. اعتُبر هذا التتويج تكريمًا ليس له فقط، بل لفنلندا بأكملها التي خرجت من حرب عالمية طاحنة تبحث عن أمل.

كما حصل على:

  • ميدالية أكاديمية العلوم الفنلندية.
  • عضوية فخرية في عدة جمعيات علمية أوروبية.
  • تكريم من منظمة الأغذية والزراعة الدولية (FAO) تقديرًا لإسهاماته في الأمن الغذائي.

التحديات والمواقف الإنسانية

رغم مجده العلمي، عاش فيرتانين توترات سياسية واجتماعية، خاصة أن إنجازاته تزامنت مع الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، رفض عروضًا مغرية للعمل في مختبرات كبرى خارج فنلندا، مفضّلًا البقاء في بلاده لدعم فلاحيها.

كان معروفًا بتواضعه وإنسانيته. لم ينظر إلى العلم كوسيلة للشهرة، بل كأداة لمكافحة الجوع والفقر. وقد حكى أحد طلابه أنه كان يردد دائمًا: “أفضل جائزة يمكن أن أحصل عليها أن أرى فلاحًا مبتسمًا لأن محصوله لم يفسد.”

الإرث والتأثير المستمر

إرث سيرة أتوري فيرتانين يتجاوز حدود الكيمياء.

  • أسس مدرسة علمية في فنلندا أخرجت أجيالًا من الباحثين.
  • ترك بصمة في مجال الكيمياء الزراعية والتغذية، حيث تُدرّس أبحاثه حتى اليوم.
  • ساهمت طريقته في تقليل الهدر الغذائي، وهو موضوع لا يزال العالم يواجهه في القرن الحادي والعشرين.

الجانب الإنساني والشخصي

خارج المختبر، كان فيرتانين زوجًا وأبًا حنونًا. أحب الطبيعة والموسيقى الكلاسيكية، وكان يقضي أوقات فراغه في الحقول والغابات. كما شارك في مبادرات مجتمعية لدعم التعليم العلمي في المدارس الريفية.

من أقواله المأثورة:

“التعليم هو السماد الذي ينبت منه مستقبل الأمم.”

الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام

قصة حياة أتوري إلماري فيرتانين ليست مجرد مسار أكاديمي نحو جائزة نوبل؛ إنها قصة إنسان آمن أن العلم يجب أن يُسخّر لخدمة البشر. إنجازاته في حفظ الغذاء والبحث في الفيتامينات لا تزال تلهم العلماء لمواجهة التحديات الغذائية والبيئية اليوم.

من سيرته نتعلم أن:

  • التواضع يمكن أن يسير جنبًا إلى جنب مع العبقرية.
  • أعظم الاكتشافات هي التي تغيّر حياة الناس البسطاء.
  • الإرث الإنساني والعلمي يدوم أكثر من أي تكريم مادي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى