سيرة إرنست بوريس شين: رحلة العقل من المنفى إلى نوبل

المقدمة: جذب الانتباه
في القرن العشرين، كان العالم على موعد مع ثورة طبية غيرت وجه التاريخ: اكتشاف البنسلين كأول مضاد حيوي فعال أنقذ ملايين الأرواح من براثن العدوى القاتلة. ورغم أن اسم ألكسندر فليمنغ يتصدر عادة المشهد بوصفه مكتشف البنسلين، فإن النجاح في تحويل هذه المادة إلى علاج عملي آمن وفعال لم يكن ليتحقق لولا جهود عالم الكيمياء الحيوية الألماني-البريطاني إرنست بوريس شين (Ernst Boris Chain). كانت قصة حياته مثالًا للنجاح رغم التحديات، ورحلة من الألم والمنفى إلى قمة المجد حين نال جائزة نوبل في الطب عام 1945.
هذه المقالة ليست مجرد استعراض لسيرة ذاتية تقليدية، بل هي حكاية إنسانية وعلمية عن رجل حمل في داخله الإصرار، وترك بصمة خالدة في تاريخ الطب والإنسانية.
النشأة والتكوين
وُلد إرنست بوريس شين في 19 يونيو 1906 بمدينة برلين، ألمانيا، في أسرة يهودية ميسورة نسبيًا. كان والده، مايكل شين، كيميائيًا صناعيًا ناجحًا، بينما لعبت والدته مارغريت دورًا كبيرًا في رعاية الأسرة وتوفير بيئة ثقافية غنية لأطفالها.
نشأ شين في ظل أجواء سياسية مضطربة؛ حيث كانت ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى تعاني من التضخم، البطالة، والاضطرابات السياسية. لكن هذه التحديات لم تمنعه من حب العلم، فقد كان طفلًا مولعًا بالقراءة والتجارب البسيطة في المنزل، مستفيدًا من مكتبة والده الواسعة.
يُروى أن شين كان منذ صغره يُبدي فضولًا لا يُشبع، وكان يطرح أسئلة معقدة على والديه مثل: “كيف تتحول المواد إلى أدوية؟”، وهي إشارة مبكرة لشغفه المستقبلي.
التعليم وبداية التكوين المهني
بدأ شين تعليمه في مدارس برلين، وأظهر تفوقًا ملحوظًا في الرياضيات والكيمياء. التحق بجامعة فريدريش فيلهلم (جامعة برلين الحالية) حيث درس الكيمياء الحيوية، وحصل على درجة الدكتوراه في عام 1930 عن أطروحة تتعلق بإنزيمات الفوسفوليبيد.
لكن عام 1933 كان نقطة تحول مأساوية. صعود النازية في ألمانيا وضع اليهود في مواجهة اضطهاد متزايد، ما اضطر شين إلى مغادرة وطنه. فقد وظيفته، وتعرض والده للسجن، ثم وُضع تحت الإقامة الجبرية، بينما صودرت ممتلكات الأسرة. هذه المأساة دفعت شين إلى الهجرة إلى بريطانيا بحثًا عن الأمان والاستمرار في البحث العلمي.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
عند وصوله إلى بريطانيا، واجه شين صعوبات كبيرة: لغة جديدة، مجتمع غريب، وموارد محدودة. لكنه وجد ملاذًا في جامعة كامبريدج، حيث حصل على منحة بحثية صغيرة، مكنته من الانضمام إلى نخبة من الباحثين.
في البداية، ركز أبحاثه على الكيمياء الحيوية للإنزيمات، وبدأ في بناء سمعته كعالم دقيق وصاحب منهج تجريبي صارم.
لكن نقطة التحول الكبرى جاءت عام 1939، حين اندلعت الحرب العالمية الثانية. كانت بريطانيا في أمسّ الحاجة إلى أبحاث يمكن أن تساهم في إنقاذ الجنود والمدنيين من العدوى التي تفتك بهم.
وهنا بدأ شين تعاونًا أسطوريًا مع الطبيب الأسترالي هوارد فلوري في جامعة أكسفورد، حيث أعادوا إحياء بحث قديم لفليمنغ عن مادة تدعى “البنسلين”.
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
الجدول الزمني المبسط:
- 1920s: دراسة الكيمياء الحيوية في برلين.
- 1930: نيل الدكتوراه في الكيمياء الحيوية.
- 1933: الهجرة إلى بريطانيا بسبب النازية.
- 1939: بدء أبحاث البنسلين في أكسفورد.
- 1941: التجارب الأولى الناجحة على البشر.
- 1945: نوبل في الطب مع فلوري وفليمنغ.
قصة البنسلين:
كان البنسلين معروفًا منذ عام 1928 بفضل اكتشاف فليمنغ، لكنه ظل “فضولًا مختبريًا” بلا استخدام طبي حقيقي. لم يعرف أحد كيف يمكن استخلاصه أو إنتاجه بكميات كبيرة.
دخل شين وفلوري المشهد ليغيرا القصة. باستخدام خبرته في الكيمياء الحيوية، استطاع شين أن يحدد البنية الكيميائية للبنسلين، ويطور طرقًا لتنقيته. ثم قاد مع فلوري فريقًا من العلماء لاختبار فعاليته ضد البكتيريا المسببة للأمراض.
في عام 1941، جُرّبت أولى الجرعات على المرضى، وكانت النتائج مذهلة: التهابات قاتلة شُفيت، وأرواح أنقذت. خلال الحرب العالمية الثانية، أصبح البنسلين سلاحًا استراتيجيًا أنقذ حياة آلاف الجنود المصابين بالجروح الملوثة.
يمكن القول إن “إنجازات إرنست بوريس شين” كانت حاسمة في تحويل اكتشاف علمي إلى ثورة طبية غيّرت وجه الطب الحديث.
التكريمات والجوائز الكبرى
أبرز هذه الجوائز كان جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا عام 1945، التي تقاسمها مع هوارد فلوري وألكسندر فليمنغ.
لكن شين حاز أيضًا على:
- وسام الاستحقاق البريطاني.
- عضوية الجمعية الملكية في لندن.
- العديد من التكريمات من جامعات عالمية مثل هارفارد وكامبريدج.
ورغم هذه الأوسمة، ظل شين معروفًا بتواضعه، إذ كان يقول:
“لم أبحث يومًا عن الشهرة، بل عن المعرفة التي تنقذ الأرواح.”
التحديات والمواقف الإنسانية
قصة شين ليست قصة نجاح سلس، بل قصة معاناة وإنسانية. فقد فقد وطنه، وأملاكه، ورأى والديه يعانيان من ويلات النازية. كما عانى هو نفسه من صعوبة الاندماج في بيئة جديدة.
لكن بدلًا من الاستسلام، استثمر هذه المعاناة ليصنع من نفسه إنسانًا أكثر صلابة وتعاطفًا. كان داعمًا كبيرًا للاجئين اليهود في بريطانيا، وساهم في مبادرات لإعادة دمج العلماء المهاجرين في المجتمع الأكاديمي.
الإرث والتأثير المستمر
ترك شين للعالم إرثًا هائلًا. لم يكن البنسلين مجرد دواء، بل بداية عصر المضادات الحيوية الذي أنقذ مئات الملايين من البشر.
اليوم، يُنظر إليه كأحد “آباء المضادات الحيوية”، وشخصية محورية في تاريخ الطب.
إضافة إلى ذلك، ألهمت سيرته الكثير من العلماء الشباب بأن النجاح لا يُقاس بالراحة أو الظروف المثالية، بل بالإصرار والبحث المستمر عن الحلول.
الجانب الإنساني والشخصي
رغم انشغاله بالبحث، كان شين محبًا للموسيقى الكلاسيكية، وخاصة أعمال بيتهوفن وباخ. كان يؤمن أن الفن والعلم يكملان بعضهما. تزوج وأنجب أطفالًا، وحرص على غرس حب العلم في أسرته.
ومن كلماته التي تُلخص فلسفته:
“العلم بلا إنسانية خطر، والإنسانية بلا علم عجز.”
الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
إن “سيرة إرنست بوريس شين” هي درس ملهم عن الصمود والابتكار. من طفل يهودي في برلين إلى عالم منفي في بريطانيا، إلى بطل إنساني وعلمي أنقذ ملايين الأرواح.
تعلمنا حياته أن:
- التحديات قد تكون منبعًا للإبداع.
- العلم لا يعرف حدودًا قومية.
- الإصرار يمكن أن يحول المحنة إلى منحة.