سيرة جيمس باتشلر سومنر: من روح مكسورة إلى بلورة علم تغيره العالم

“ما إن بلّورت أول إنزيم حتى علمت أن الأسئلة التي يراها الآخرون مستحيلة يمكن أن تصبح واقعاً”.
— مقتطف من محاضرة نوبل لـ سومنر
1. المقدمة: همهمة بلّورة تضيء طريق المعرفة
في إحدى سنوات العشرينيات، كان عالمٌ شاب يُحاول الابتعاد عن الشكوك والشكّاكين: إنزيم يُقال إن بلورته مستحيلة، وإنه حتى لو بلور، فهل هو بروتين؟ سومنر، عالمًا متواضعًا ذو ذراعٍ واحدة فقط، رفض أن يقبل حدود الظنّ وخسرانه، وبلور أخيراً إنزيم اليوريز (urease) في شكل بلوري، مثبتًا أن الإنزيمات ليست مجرد فعل حي أو سرّي بل هي بروتينات — اكتشاف هزّ ركائز الكيمياء الحيوية وغير مفاهيم كاملة آنذاك. إنجازٌ جعله، مع آخرين، يُمنَح جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1946. هذه ليست فقط قصة إنجاز علمي، بل قصة إنسان قوي التغلب على الصعاب، متمسّك بحلمه رغم كل عائق.
2. النشأة والتكوين
- وُلد جيمس باتشلر سومنر في 19 نوفمبر 1887 في كانتُون، ماساتشوستس، الولايات المتحدة الأمريكية.
- والده تشارلز سومنر ووالدته إليزابيث راند كيلي سومنر، من عائلة بيوريتانية (Puritan) كان لديها أجداد هاجروا من إنجلترا إلى بوسطن عام 1636.
- تعلّم في مدارس محلية: ابتدائي في Eliot Grammar School، ثم Roxbury Latin School. منذ صغره أبدى الشغف بالعلوم، حتّى أن غالبية المواد الدراسية الأخرى كانت تكدّره من الملل باستثناء الفيزياء والكيمياء.
- في عمر سبعة عشر عامًا، أثناء رحلة صيد، تعرّض لحادث إطلاق نار عرضي من رفيق، مما أدّى إلى بتر ذراعه الأيسر أسفل الكوع. كان يستخدم يده اليسرى قبل الحادث، فعَلِم نفسه بعده كيف يعمل باليد اليمنى. هذا التحدّي الإضافي، بدل أن يكسره، جعله أكثر إرادة وعزيمة.
3. التعليم وبداية التكوين المهني
- التحق بجامعة هارفارد عام 1906، وتخرج منها بدرجة البكالوريوس في الكيمياء في 1910.
- بعد التخرّج، عمل لفترة قصيرة في مصنع حمّالات القطن التابع لعمه، لكنه لم يكن مهتماً بهذا العمل. ثم قبل عرضًا للتدريس في جامعة Mount Allison في كندا، حيث درّس الكيمياء والفيسيولوجيا.
- في عام 1912، عاد إلى هارفارد لدراسة الكيمياء الحيوية تحت إشراف الأستاذ أوتو فولين (Otto Folin)، وحصل على درجة الدكتوراه عام 1914. فولين في البداية شجّعه على دراسة القانون بدل الكيمياء باعتبار أن رجلًا ذي ذراعٍ واحدة قد لا ينجح في المختبر، لكن سومنر أصرّ على مساره العلمي.
- بعد درجة الدكتوراه، انتقل للعمل في جامعة Cornell كباحث وأستاذ مساعد في الكيمياء الحيوية، حيث بدأ بحثه في الإنزيمات تحديدًا.
4. الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
- جدول زمني مبسّط لبعض الأحداث المحورية:
السنة | الحدث |
---|---|
1906 | الدخول إلى جامعة هارفارد |
1910 | التخرج من هارفارد بدرجة بكالوريوس في الكيمياء |
1914 | حصوله على درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية |
1917–1926 | محاولات مستمرة لاستخلاص إنزيم اليوريز |
1926 | نجاح في تبلور اليوريز |
1929 | تعيينه أستاذاً كاملاً في جامعة Cornell |
1937 | جائزة Guggenheim ومن ثم Scheele Medal |
1946 | جائزة نوبل في الكيمياء |
1948 | انتخابه في الأكاديمية الوطنية للعلوم الأمريكية |
- بعد الدكتوراه، شرع سومنر في بحثه الأكثر جرأة: كيف يمكن تبلور إنزيم نقّي؟ لم يكن المختبر جيدًا، المعدات بسيطة، والفريق قليل العدد، لكن الإصرار كان كبيرًا.
- في أوائل العشرينيات، تلقّى منحة أمريكية-بلجيكية (American-Belgian fellowship)، وقرّر تجربة العمل مع الكيميائي Jean Effront في بروكسل، لكن الفكرة وُجهت بالرفض، حيث رأى Effront أن محاولة تبلور اليوريز “مستحيلة”. لكن سومنر عاد لمختبر Cornell وعمل بإصرار على تجربة بعد تجربة حتى نجح فعلاً عام 1926.
5. الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
- إنجاز تبلور إنزيم اليوريز (Urease) عام 1926 كان أول دليل عملي واضح على أن الإنزيمات يمكن أن تُستخلص في شكل نقّي وتبلور، مما مهد لفهم أن الإنزيمات هي بروتينات.
- بعد ذلك، واصل التجارب ونجح في تبلور إنزيم Catalase وإنزيمات أخرى من نبات الـ jack bean (الفاصوليا اليابانية) وغيرها.
- من خلال تجاربه، تغيّرت المفاهيم: قبل سومنر، كان من الشكّ أن الإنزيمات يمكن أن تُعزل أو تُبلور، وكان هناك من يقول إن التبلر إنزيم هو خدعة. إنجاز سومنر أثبت أن العملية ممكنة، صار نموذجاً يُقتدى به.
- الأثر العالمي:
- فتح الباب أمام بحوث كثيرة في الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية، خصوصًا فهم التركيب البنيوي للإنزيمات وكيف تعمل.
- انعكس ذلك أثره في الطب (الفهم الأفضل لإنزيمات الهضم، التحليل النباتي والحيوي، تطوير الأدوية إنزيميّة).
- التأثير على التقنيات الصناعية التي تعتمد على الإنزيمات (مثل تحويلات كيميائية صديقة للبيئة، استخدامات في الغذاء، التنظيف، إلخ).
6. التكريمات والجوائز الكبرى
- في 1937 حصل على منحــة Guggenheim Fellowship، ومن ثم جائزة Scheele Medal في ستوكهولم للمساهمات التي قدّمها في مجال الإنزيمات.
- في 1946، جائزة نوبل في الكيمياء مُشتركة مع كلٍ من جون هوارد نورثروب و وينديل ميرديث ستانلي، تكريمًا لاكتشافهم تبلور الإنزيمات وإثبات أن الإنزيمات بروتينات.
- في 1948، انتُخب عضوًا في الأكاديمية الوطنية للعلوم الأمريكية.
- بالإضافة إلى كونه زميلًا في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم عام 1949.
7. التحديات والمواقف الإنسانية
- فقدان الذراع الأيسر كان ضربة قوية، ليست جسدية فحسب، بل نفسية أيضًا: تغيّر طريقة استخدام الأدوات، ممارسة التجارب، وتحريك الأشياء الدقيقة بيدٍ جديدة. لكنه لم يسمح لهذا العائق أن يكون حائلاً بينه وبين تحقيق ما يريد.
- تعرض في بداياته للشكّ من زملائه: كثيرون ظنّوا أن فكرة تبلور إنزيم مستحيلة أو أنها مجرد مادة حاملة غير الإنزيم نفسه. هذا الرفض لم يثنه، بل حفّزه.
- حياة شخصية متعددة الزيجات، والتوازن بين البحث والعمل الأكاديمي، وبين الحياة الاجتماعية والعائلية. كان متزوجًا ثلاث مرات، وله أولاد.
8. الإرث والتأثير المستمر
- بالرغم من وفاته في 12 أغسطس 1955 في بافالو، نيويورك، إثر سرطان، يبقى إرث سومنر حيًّا في الأبحاث التي تعتمد على الإنزيمات كعناصر مركزية في الكيمياء الحيوية، الطب، الصناعة.
- اليوم، مفاهيم مثل تبلور البروتينات، استقصاء البنية الجزيئية للعوامل الحيوية، وتصميم الأدوية الموجهة تعتمد على أساسٍ وضعه سومنر وغيره من العلماء.
- يُدرَّس اسمه وتجربته في كتب العلوم الحيوية والكيمياء: كيف يمكن للعزيمة الشخصية أن تغلب حدودًا جسمانية وفكرية، وكيف أن الشكّ يمكن أن يكون دافعًا للاجتهاد وليس عائقًا.
9. الجانب الإنساني والشخصي
- كان سومنر ليس فقط عالِمًا بمعامل ومختبرات، بل إنسانًا بسيطًا يحبّ الصيد، التصوير، الاهتمام بالمطبخ، ويتحدّى نفسه حتى في الألعاب الرياضية رغم العائق الجسدي.
- كان يتحدث عدة لغات (الإنجليزية بطبيعة الحال، وألمانية، وفرنسية، وحتى السويدية)
- علاقته بالعمل كانت علاقة حبٍّ بالبحث، ليس بالتكلفة أو الشهرة، بل بفهم أسرار الطبيعة، بلور وبلور حتى لو بدا الأمر جنونًا في عيون الآخرين.
10. الخاتمة: دروس ملهمة من حياة جيمس باتشلر سومنر
إن سيرة جيمس باتشلر سومنر تخبرنا أن الإرادة الفردية قد تُذلل العقبة الظاهرية إذا ترافقت مع الشغف بالبحث والالتزام. من طفل فقد ذراعه، ومن عالم تعرض للتشكيك، إلى فائز بجائزة نوبل تُريد العالم اليوم أن يقرّ بشغله؛ هذا الانتقال هو قصة أملٍ، وإصرارٍ، وتحويلِ شكوك إلى اكتشافات.
دروس يمكن استخلاصها:
- لا تدع ظرفًا جسديًا يمنعك من السعي نحو الامتياز.
سومنر فقد ذراعه لكنه لم يفقد حلمه. - الشكّ من الآخرين قد يكون دافعًا أقوى من الدعم الظاهرة.
تجربة رفض Effront وأولئك الذين شكّوا به صقلت عزمه. - الإنجاز الحقيقي غالبًا يتطلب صبرًا طويلًا وتجارب فاشلة قبل النجاح.
- البحث العلمي لا ينتهي بمجرد اكتشاف، بل يمتد تأثيره عبر الأجيال.