سيرة جيمس شادويك: مكتشف النيوترون الذي هزّ العالم بهدوء

في بدايات القرن العشرين، حين كان العالم على أعتاب أكبر ثورات علمية في تاريخه، لم يكن أحد ليتخيل أن شابًا إنجليزيًا هادئ الطبع، مولعًا بالمعادلات والمختبرات، سيُحدث رجّة غير مسبوقة في فهمنا لبنية الذرّة. جيمس شادويك (James Chadwick)، لم يكن صاحب شهرة لامعة في شبابه، لكنه حفر اسمه في سجلات المجد العلمي حين اكتشف النيوترون، الجسيم الخفي في نواة الذرّة، والذي غيّر مسار الفيزياء النووية والعالم بأسره.
سبب فوز جيمس شادويك بجائزة نوبل كان هذا الاكتشاف الذي أعاد رسم خريطة الذرّة، وأطلق سباقًا علميًا كان من بين نتائجه تطوير الطاقة النووية، بكل إمكاناتها وآثارها.
ملامح التكوين: من مانشستر إلى عتبات العلم
وُلد جيمس شادويك في 20 أكتوبر 1891 في بلدة بولينجتون، القريبة من مدينة مانشستر البريطانية، لعائلة متواضعة من الطبقة العاملة. والدته، آن ماري نوكس، كانت ربة منزل، ووالده، جوزيف، عمل في مجال البيع بالتجزئة. وسط تلك الأجواء البسيطة، لم يكن متاحًا للطفل جيمس الكثير من الرفاهية، لكن شغفه بالتعلّم كان أقوى من كل الظروف.
في صغره، أبدى ميلًا شديدًا للرياضيات والفيزياء، رغم أنه التحق بالمدرسة بهدف دراسة الهندسة. تقول بعض الروايات أنه لم يكن يعرف الفرق بين الفروع العلمية، بل اختار الفيزياء لعدم وجود رسوم دراسية فيها، لكنه سرعان ما وقع في حبها للأبد.
خطوات نحو القمة: محطات أكاديمية استثنائية
التحق شادويك بجامعة فيكتوريا في مانشستر، حيث تتلمذ على يد أحد أعمدة الفيزياء آنذاك: إرنست رذرفورد، مكتشف نواة الذرّة. كانت تلك اللحظة حاسمة في تشكيل رؤيته العلمية.
بعد تخرّجه بدرجة الامتياز عام 1911، حصل على منحة لمتابعة أبحاثه في جامعة كامبريدج. وهناك، في مختبر كافنديش الشهير، بدأ يشق طريقه في علم النواة، بدعم مباشر من رذرفورد.
أطروحته للدكتوراه (1921) تمحورت حول النشاط الإشعاعي الاصطناعي، وهو موضوع كان في طليعة العلوم الحديثة آنذاك.
أولى خطوات التأثير: بين الحرب والعلم
في بداية حياته المهنية، عُيّن شادويك مساعدًا لرذرفورد، وشارك في أبحاث حول الجسيمات دون الذرية. إلا أن الحرب العالمية الأولى (1914–1918) أوقفت مسيرته مؤقتًا، إذ وقع أسيرًا في معسكر ألماني طوال فترة الحرب.
بعد عودته إلى بريطانيا، استأنف أبحاثه في مختبر كافنديش، وبدأ العمل على فهم تركيبة النواة الذرية، في وقتٍ كانت فيه البروتونات فقط معروفة داخلها، ولم يكن العلماء يعرفون ما يُعادل شحنتها ليوازن الكتلة.
كنت أشعر أن هناك شيئًا مفقودًا داخل النواة… شيئًا لا يحمل شحنة لكنه موجود، كتب شادويك لاحقًا.
إنجازات شادويك في الفيزياء: اكتشاف النيوترون وتداعياته
الاكتشاف الأعظم – 1932: النيوترون
في عام 1932، قام شادويك بتجربة مفصلية، حيث قذف مادة البيريليوم بجسيمات ألفا (α)، ولاحظ انبعاث إشعاع غير مألوف لا يملك شحنة كهربائية.
من خلال سلسلة حسابات دقيقة وتجارب مضنية، استنتج أن هذا الإشعاع ما هو إلا جسيم متعادل الشحنة داخل النواة، أطلق عليه اسم “النيوترون”.
السنة | الحدث | التأثير |
---|---|---|
1932 | اكتشاف النيوترون | إعادة صياغة النموذج النووي، وفتح الباب أمام انشطار الذرّة |
الأثر الفوري: أتاح هذا الاكتشاف إمكانية انشطار الذرّة، وهي الخطوة التي قادت لاحقًا لتطوير الطاقة النووية والأسلحة النووية.
المقارنة: قبل النيوترون، كانت النواة لغزًا غير مكتمل، يُعتقد أنها تحتوي فقط على بروتونات، ولم تكن الكتلة الإجمالية مفهومة بشكل كافٍ.
النيوترون كان المفتاح الأخير لفهم النواة، وجعل من الفيزياء النووية علمًا تطبيقيًا، بحسب معهد الفيزياء البريطاني.
لحظة نوبل: قمة المجد العلمي
في 10 ديسمبر 1935، منحت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم جائزة نوبل في الفيزياء لجيمس شادويك، تكريمًا لاكتشافه “النيوترون”، ووصفت الإنجاز بأنه “فتح علمي مذهل أزال الغموض عن النواة الذرية”.
بيان لجنة نوبل:
“تُمنح جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1935 إلى جيمس شادويك لاكتشافه النيوترون، الذي أعاد تشكيل فهمنا للكتلة الذرية، ومهّد الطريق لتطبيقات علمية هائلة.”
(المصدر: NobelPrize.org)
ردة فعله: كان شادويك متواضعًا، صرّح لاحقًا:
لم أكن أبحث عن المجد، بل عن إجابة علمية منطقية لما لم نفهمه بعد.
التحديات والإنسان وراء العبقرية
رغم الإنجاز الكبير، لم تكن حياة شادويك سهلة. تعرض لنقد من بعض زملائه الذين لم يصدقوا بادئ الأمر وجود “جسيم غير مشحون”. كما اضطر للعمل في ظل أزمات اقتصادية، ومع تهديدات الحرب العالمية الثانية.
لكنه ظل مصرًا، واصل البحث، وتحمّل مسؤوليات إدارية في مؤسسات علمية رغم طبيعته الهادئة والمنغلقة.
ما بعد نوبل: أوسمة وإرث خالد
- أستاذ الفيزياء في جامعة ليفربول (1935–1948)
- أحد العلماء البارزين في مشروع مانهاتن الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية
- نال وسام الاستحقاق البريطاني عام 1945
- عضوية الأكاديمية الملكية البريطانية
- أكثر من 20 بحثًا محكّمًا في الفيزياء النووية
ترك شادويك إرثًا عظيمًا يتمثل في تطوير العلوم النووية السلمية، مثل العلاج الإشعاعي، وإنتاج الطاقة النووية لأغراض مدنية.
الجانب الإنساني: روح العالم المتواضع
بعيدًا عن المختبرات، كان شادويك رجلًا بسيطًا، يهوى المشي في الطبيعة، ويحب قراءة الأدب الكلاسيكي. لم يكن يتحدث كثيرًا عن نفسه، لكنه عبّر في أحد خطاباته عن فلسفته:
العلم ليس سعيًا وراء السلطة، بل محاولة لفهم النظام الجميل الذي يعمل به هذا الكون.
كما ساهم بعد تقاعده في توجيه العلماء الشباب، وتقديم استشارات أخلاقية في مجال الطاقة النووية.
ذكراه وتكريماته بعد الوفاة
توفي جيمس شادويك في 24 يوليو 1974 عن عمر ناهز 82 عامًا. وبعد وفاته، سُميت قاعات علمية ومختبرات باسمه، كما خُلّد اسمه في مناهج الفيزياء حول العالم.
خاتمة: من شاب مجهول إلى مهندس العالم النووي
سيرة جيمس شادويك تُجسد رحلة العلم الحقيقية: شغف يولد من المجهول، صبر في مواجهة الغموض، وصدق في البحث عن الحقيقة. لم يكن يبحث عن التصفيق، بل عن “الجسيم الصامت” الذي حيّر العقول… ووجده.
علمنا شادويك أن العالم لا يتغير بالصراخ، بل باكتشاف صغير قد يُحرك الجبال بصمت. ولا تزال قصته تلهم الأجيال على الإيمان بأن الإجابات تكمن في الإصرار والبحث.