سيرة فيليب والتر هينش: الطبيب الذي اكتشف سرّ الشفاء في الغدد

1️⃣ المقدمة: الطبيب الذي غيّر ملامح الطب الحديث
في عالم الطب، ثمّة لحظات فاصلة بين المعاناة والشفاء، بين الألم والأمل. ومن بين تلك اللحظات المضيئة، تبرز لحظة عام 1948 حين أعلن طبيب أميركي اسمه فيليب والتر هينش (Philip Showalter Hench) عن اكتشافٍ سيقلب موازين الطب في علاج الأمراض المزمنة، ويمنح ملايين المرضى حول العالم فرصةً جديدة للحياة.
كان ذلك الاكتشاف هو الكورتيزون، الهرمون السحري الذي يخفف الالتهابات ويعيد للجسد توازنه. ولم يكن هذا الاكتشاف ثمرة صدفة، بل نتاج رحلة حياة حافلة بالبحث والإصرار، امتدت من شوارع بيتسبرغ الهادئة إلى قاعات “مايو كلينيك” العريقة، حيث وُلدت واحدة من أعظم إنجازات القرن العشرين.
2️⃣ النشأة والتكوين: البدايات الهادئة في بيتسبرغ
وُلد فيليب والتر هينش في 28 فبراير عام 1896 بمدينة بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا الأميركية، في أسرة متواضعة محبة للعلم. كان والده يعمل في مجال التعليم، وهو ما زرع في قلب الطفل الصغير حبّ المعرفة والانضباط.
في طفولته، لم يكن فيليب الطفل الأكثر صخبًا، بل كان ميّالًا للتأمل والقراءة. وكان شغفه بالملاحظة والتفكير في طبيعة الجسم البشري قد بدأ منذ سنواته الأولى، خاصة بعد أن أصيب أحد أفراد أسرته بمرضٍ مفصليّ جعله عاجزًا عن الحركة لأسابيع. تلك التجربة الصغيرة كانت البذرة الأولى التي ستنبت لاحقًا شجرة إنجازاته الطبية.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان فيليب لا يزال شابًا يافعًا، لكنّ روح المسؤولية والفضول العلمي قادته إلى دراسة الطب، رغبةً في أن يفهم كيف يمكن للإنسان أن يخفف الألم ويواجه الموت بالعلم.
3️⃣ التعليم وبداية التكوين المهني: من جامعة بيتسبرغ إلى “مايو كلينيك”
التحق هينش بجامعة بيتسبرغ (University of Pittsburgh) حيث حصل على شهادة البكالوريوس عام 1916، ثم واصل دراسة الطب في الجامعة نفسها وتخرّج عام 1920 بدرجة الدكتوراه في الطب.
بعد تخرجه، التحق بمؤسسة مايو كلينيك (Mayo Clinic)، وهي واحدة من أرقى المؤسسات الطبية في الولايات المتحدة والعالم. هناك وجد بيئته المثالية: مختبرات متقدمة، أطباء باحثون، ونظام صارم في تحليل الحالات الطبية.
في تلك الفترة، بدأت ملامح اهتمامه تتشكل حول أمراض المفاصل والروماتيزم، وهو تخصص لم يكن يحظى حينها باهتمام واسع. رأى هينش في هذه الأمراض لغزًا صعبًا، إذ لم يكن الأطباء يعرفون سبب الالتهابات ولا طريقة فعّالة لعلاجها.
4️⃣ الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى: سنوات البحث الطويلة
في عشرينيات القرن الماضي، كانت أمراض الروماتويد المفصلي تُمثّل تحديًا طبيًا معقدًا. كان المرض يهاجم المفاصل مسببًا ألمًا مبرحًا وتشوهات مزمنة، وكان الأطباء عاجزين عن علاج جذري.
بدأ هينش يلاحظ ظاهرة غريبة: بعض المرضى الذين أُصيبوا بـ اليرقان (الصفار) أو أثناء الحمل كانوا يختبرون تحسّنًا مؤقتًا في أعراض الروماتويد!
هذه الملاحظة غير التقليدية أشعلت شرارة التساؤل في ذهنه: هل هناك مادة في الجسم تُنتج أثناء تلك الحالات قادرة على تهدئة الالتهاب؟
كانت الإجابة تتطلب سنوات من البحث. ومن هنا بدأ تعاونٌ فريد مع عالم الكيمياء الحيوية إدوارد كندال (Edward Calvin Kendall)، الذي كان يدرس مركبات الغدة الكظرية (الغدة فوق الكلوية). جمع هينش الملاحظة الإكلينيكية، وجمع كندال التحليل الكيميائي، وبدأ الاثنان رحلة بحثٍ امتدت عقدين من الزمن.
جدول زمني مختصر للمرحلة البحثية:
| السنة | الحدث |
|---|---|
| 1921 | انضمّ هينش إلى مايو كلينيك كباحث في أمراض الروماتيزم. |
| 1929 | بدأ ملاحظاته عن التحسّن العارض لدى مرضى الروماتويد أثناء الحمل أو اليرقان. |
| 1935 | بدأ التعاون العلمي مع الكيميائي إدوارد كندال. |
| 1948 | أول تجربة علاجية بالكورتيزون على المرضى في مايو كلينيك. |
| 1950 | فاز بجائزة نوبل في الطب بالمشاركة مع كندال وتاديوس رايشستاين. |
5️⃣ الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي: اكتشاف الكورتيزون
في عام 1948، وبعد أكثر من عشرين عامًا من البحث، تمكّن هينش وفريقه من حقن أول مريض يعاني من التهاب المفاصل الروماتويدي بمادة مستخلصة من الغدة الكظرية أُطلق عليها اسم الكورتيزون (Cortisone).
كانت النتيجة مذهلة: بعد أيام، بدأ المريض الذي كان عاجزًا عن الحركة يمشي من جديد، وعادت له القدرة على استخدام يديه دون ألم!
كتب هينش في تقريره الطبي الشهير:
«كان الأمر كما لو أننا أعدنا الحياة إلى المفصل الميت.»
انتشرت نتائج البحث كالنار في الهشيم، واعتبرته المجلات الطبية آنذاك “أعظم اكتشاف في علاج الالتهابات منذ اكتشاف البنسلين”.
الكورتيزون لم يكن مجرّد دواء، بل فتح الباب أمام جيلٍ جديد من الستيرويدات القشرية التي أحدثت ثورة في علاج أمراض المناعة الذاتية، والحساسية، والربو، والجلدية، بل وحتى في جراحة الزرع وزراعة الأعضاء لاحقًا.
6️⃣ التكريمات والجوائز الكبرى: نوبل وأوسمة الطب العالمية
في عام 1950، أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عن منح جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا إلى كلٍّ من فيليب والتر هينش، وإدوارد كندال، وتاديوس رايشستاين (العالم السويسري الذي ساهم في تحديد البنية الكيميائية للكورتيزون).
جاء في حيثيات الجائزة:
«تقديرًا لاكتشافاتهم المتعلقة بهرمونات قشر الغدة الكظرية وآثارها الحيوية في علاج الأمراض المزمنة.»
كانت لحظة التكريم تتويجًا لمسيرة شاقة امتدت أكثر من عقدين، وتأكيدًا على أن العلم مكافأة الصبر والإصرار.
لاحقًا، تلقّى هينش العديد من الأوسمة الفخرية من جامعات مرموقة مثل هارفارد وستانفورد، كما تولّى رئاسة الجمعية الأميركية لأمراض الروماتيزم.
7️⃣ التحديات والمواقف الإنسانية: العالم والطبيب والإنسان
رغم مجده العلمي، ظلّ هينش إنسانًا بسيطًا متواضعًا. في كل مقابلة كان يؤكد أن الاكتشاف لم يكن جهد شخص واحد، بل ثمرة تعاون وتكامل بين الطبيب والمخبري والمريض.
واجه فيليب انتقادات حين بدأ استخدام الكورتيزون على نطاق واسع، إذ ظهرت بعض الآثار الجانبية مثل ارتفاع ضغط الدم وضعف المناعة، لكنّه كان أول من دعا إلى استخدام الدواء بحذر، مؤكدًا أن “الدواء المعجزة يمكن أن يتحوّل إلى خطر إذا أُسيء استخدامه”.
كان يؤمن بأن الطبيب لا يُقاس بما يكتشف فقط، بل بما يُحدثه في حياة الناس.
كان كثير المشاركة في البرامج الإنسانية لعلاج الفقراء والجنود الجرحى، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، حين ساهم في برامج التأهيل الطبي لضحايا الحرب.
8️⃣ الإرث والتأثير المستمر: حين يتحوّل العلم إلى إرث إنساني
بعد أكثر من سبعين عامًا على اكتشاف الكورتيزون، ما زال اسم فيليب والتر هينش يتردّد في كليات الطب ومستشفيات العالم.
لقد غيّر هذا الاكتشاف مسار الطب الحديث:
- أنقذ ملايين من مرضى الروماتويد والربو والحساسية.
- فتح الباب أمام أدوية الستيرويد الصناعي.
- أسهم في فهم أفضل لآليات المناعة والالتهاب في جسم الإنسان.
ترك هينش وراءه إرثًا علميًا وإنسانيًا لا يُقدّر بثمن. وحتى بعد وفاته في 30 مارس 1965، بقيت مؤلفاته وبحوثه مرجعًا للأطباء والباحثين.
ولعل أعظم ما تركه هو المثال الصادق على أن البحث العلمي يمكن أن يكون عملاً إنسانيًا قبل أن يكون إنجازًا أكاديميًا.
9️⃣ الجانب الإنساني والشخصي: الطبيب الذي آمن بالرحمة قبل الدواء
بعيدًا عن المختبرات، كان فيليب زوجًا وأبًا محبًا، متزوجًا من مادلين بيري، وأنجب منها طفلين. كان يرى في أسرته مصدر التوازن والدعم وسط ضغوط العمل والبحث.
كان يُعرف بابتسامته الهادئة وعبارته المتكررة لطلابه في مايو كلينيك:
«لا تعالجوا المرض فقط، بل عالجوا الإنسان الذي يحمل المرض.»
خلال حياته المهنية، دعم عشرات الباحثين الشباب، ومنحهم فرصًا للعمل في مختبراته دون مقابل، مؤمنًا بأن نشر المعرفة أهم من امتلاكها.
كما ساهم في تأسيس صندوق بحثي لدعم دراسات أمراض المفاصل، لا يزال قائمًا حتى اليوم في مؤسسة مايو.
🔟 الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
تُعتبر سيرة فيليب والتر هينش نموذجًا إنسانيًا وعلميًا نادرًا، يجمع بين المثابرة العلمية والرحمة الإنسانية. من طفلٍ تأمّل ألم قريبٍ مريض، إلى طبيبٍ أعاد الأمل للملايين، كانت حياته برهانًا على أن الفضول قد يصنع المعجزات، وأن الملاحظة البسيطة قد تغيّر وجه العالم.
إن إنجازات فيليب والتر هينش لم تتوقف عند اكتشاف الكورتيزون فحسب، بل امتدت لتؤسس لفلسفة جديدة في الطب: أن العلم لا يهدف فقط إلى علاج الجسد، بل إلى إعادة كرامة الإنسان في وجه الألم.
لقد كتب اسمه في تاريخ الطب بمداد من نور، وسيبقى أثره شاهدًا على أن العظمة الحقيقية هي تلك التي تُسخَّر لخدمة الإنسان.



