سيرة كورناي هايمانس: رحلة من خنت إلى نوبل

المقدمة: جذب الانتباه
في صباح 28 مارس 1892، ولد في خنت البلجيكية طفل سيغير مفاهيم الطب والبيولوجيا الفيزيولوجية: كورناي جان فرنسوا هايمانس. قبل أن يبلغ عامه الخامس والسبعين، سيحصل على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب عام 1938، بعد أن كشف الأسرار التي تُمكّن الجسم من قياس ضغط الدم ومستوى الأكسجين ونقل هذه الإشارات إلى الدماغ عبر العصب وليس الدم نفسه . مقال “سيرة كورناي هايمانس” هذا يأخذك بين طيات “حياة كورناي هايمانس” إنجازاته وتحدياته وإرثه العريق.
النشأة والتكوين
وُلد هايمانس في 28 مارس 1892 بمدينة خنت في مقاطعة الفلاندرز الشرقية ببلجيكا، في عائلة علمية، حيث كان والده جان‑فرانسوا هايمانس أستاذًا في علم الصيدلة. البيئة الثقافية والعلمية التي نشأ فيها غرست فيه حب المعرفة منذ طفولته. في المدرسة اليسوعية الشهيرDocile سانت باربرا، أظهر تفوقًا في العلوم والرياضيات، وإصرارًا مبكّرًا على فهم وظائف الجسم بشكل دقيق.
التعليم وبداية التكوين المهني
التحق بعدها بجامعة خنت وتخرج منها في تخصص الطب وعلم وظائف الأعضاء. استكمل مراحل الدراسات العليا في عدة مدن وجامعات مرموقة، منها جامعة لوزان وجامعة فيينا وكليّة لندن الجامعية، وأخيرًا مدرسة الطب في جامعة كيس وسترن ريسرف في الولايات المتحدة . خلال هذه السنوات تشكلت فلسفته العلمية: تفكير دقيق وعلمي، لا مكان للفرضيات غير المثبتة.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
عاد إلى بلجيكا عام 1922 كمدرس في جامعة خنت، وتدرّج إلى أن أصبح خلفًا لوالده في منصب أستاذ الصيدلة وعلم الفارماكوديناميكا في عام 1930. واجه آنذاك تحديات مادية وتنظيمية في مختبراته، لكنه أصر على بناء فريق بحثي متخصص في وظائف الأوعية الدمويّة والتنفس.
السنة | المرحلة المهنية | التفاصيل |
---|---|---|
1922 | مدرس في خنت | تدريس وبحث |
1930 | أستاذ ورئيس القسم | تولى إدارة قسم علم الأدوية ووظائف الدماغ والقلب |
منتصف 1930s | تجارب دقيقة | تجارب مع كلاب لفك أسرار استقبال الجسم لضغط الدم |
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
كشف هايمانس أن جسد الإنسان يقيس ضغط الدم وتركيز الأكسجين باستخدام العصب المبهم (vagus nerve) ومستقبلات كيميائية في sinus carotid وcarotid body، وليس عبر الدم نفسه، كما كان يُعتقد آنذاك. أجرى تجارب على كلاب، حيث فصل رأس أحدها عن جسده، ثم جرى تزويده بدم أحد الكلاب الأخرى، وكان الدليل العلمي واضحًا أن الدم المنقول لم يؤثر إلا إذا كان العصب متصلًا فعليًا .
قبل اكتشافه، كانت أجهزة قياس الضغط والتنفس تعتمد على أجهزة سلبية بدون فهم بيولوجي دقيق. بعده، تم تطوير أجهزة طبية تعتمد العلم الأساسي الذي وضعه هو.
“إن الدماغ لا يكتشف الضغط عبر الدم، بل عبر شبكة العصبية.”
هذا الاقتباس المقتبس باختصار يعكس فلسفته: الاعتماد على الدليل العلمي المدعوم تجريبيًا.
التكريمات والجوائز الكبرى
- جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب 1938، تكريمًا لاكتشافه آلية استقبال الجسم لضغط الدم والاوكسجين .
- نال الدكتوراه الفخرية من جامعة مونبلييه (1953)، وجامعة باريس (1959)، وجامعة الجزائر (1959)، وجامعة بوردو (1962)، وجامعة تولوز (1964)، وجامعة أوتريخت وتورينو وخنت .
- حصل على أوسمة شرفية كـ وسام النجم القطبي الملكي السويدي، ووسام ليوبولد البلجيكي، ووسام كنيسة القيامة، ووسام القديس سيلفستر .
- سُمِّت باسمه فوهة قمرية تكريمًا لروحه العلمية ومكانته الكونية .
التحديات والمواقف الإنسانية
تحلى هايمانس بالتواضع العلمي والأخلاقي. رغم شهرة اكتشافاته، تعاون مع علماء من خلفيات وأعراق مختلفة، أبرزهم عالِم الأنسجة الإسباني Fernando de Castro Rodríguez، الذي اكتشف تشريح مستقبلات القوس الشرياني (carotid body)، وقدّر هايمانس أن دعم هذا البحث كان حاسمًا في نجاحاته. (بحسب المراجع لاحقًا تم الاعتراف به لكن لم يحصل على نوبل معه) .
كما كان يؤمن بأهمية نقل المعرفة: كرس سنوات لتعليم الطلاب في جامعة خنت، مؤمنًا بأن الإرث الحقيقي هو بأجيال قادمة قادرة على البناء على الاكتشافات.
الإرث والتأثير المستمر
منذ عام 1938، أصبح اكتشافه مرجعية لكل تطوير في أجهزة مراقبة القلب والتنفس، من أجهزة ضغط الدم إلى أجهزة تحديد نسبة الأكسجين (pulse oximeters). تأسس على نظرياته الكثير من الأبحاث الحديثة في الفيزيولوجيا، وازدادت الحاجة إلى فهم التفاعل العصبي الكيميائي في الطب الحساس.
علم وظائف الأعضاء اليوم يعتمد بشكل واسع على مفهومي Baroreceptors وChemoreceptors، اللذين وصفهما ووضع أساسهما كورناي هايمانس. إنجازاته واضحة في الكتب المدرسية حتى اليوم، وتُدرّس في الجامعات حول العالم، وتطبيقاته حاضرة في المستشفيات.
الجانب الإنساني والشخصي
تزوج من طبيبة العيون برتا ماي في عام 1929، وأنجبا أربعة أبناء . كان معروفًا بتعاونه العائلي، حيث شاركا في مؤتمرات علمية، وكان يشجع أولاده على التعليم والخدمة. أحد أولاده أصبح طبيبًا، وآخر أستاذًا جامعيًا، وهكذا استمرت روح العلم في الأسرة.
كما كان هايمانس عضوًا في عدة أكاديميات دولية، منها: Académie des Sciences الفرنسية، وPontifical Academy of Sciences، وRoyal Swedish Academy of Sciences، وHeidelberg Academy، وRoyal Academy of Medicine of Belgium .
“الحقيقة العلمية لا تعرف الحدود. إنها لغة يتشاركها الباحثون عبر الشعوب.”
الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
سيرة كورناي هايمانس تمثل نموذجًا فريدًا لعلمي ربط بين الدقة والتجربة. من خنت إلى نوبل، مرّ بتحديات تنظيمية وعلمية، لكنه لم يتخل عن إيمانه بأهمية بناء المعرفة التجريبية. الدروس التي نستخلصها:
- لا تثق بفرضية لم تُثبت تجريبيًا.
- التواضع والشراكة مع الزملاء يُعزِّزان من أثر البحث.
- الإرث العلمي الحقيقي هو التعليم وتمكين من بعدك.
- حتى أبسط التوصيات يمكن أن تغيّر مجرى علوم بأكملها.
إنجازات كورناي هايمانس في “حياة كورناي هايمانس” ليست مجرد اكتشافات طبية، بل مواقف إنسانية علمية بأرقى صورها. إن قصته “قصة نجاح” ملهمة: توضح كيف يمكن للقلب والعقل أن يساهما في خدمة الإنسانية.