سير

سيرة هنريك دام: الرجل الذي كشف سر فيتامين K وأوقف نزيف العالم

المقدمة: بداية الحكاية مع نزيف لا يتوقف

في بدايات القرن العشرين، كانت المستشفيات حول العالم تواجه لغزًا مرعبًا: مرضى ينزفون بلا توقف حتى من جروح صغيرة، والأطباء عاجزون عن إيقاف النزيف. لم يكن أحد يعرف السبب، حتى جاء عالم دنماركي شاب، بإصرار لا يعرف الكلل، ليقود رحلة علمية مذهلة تنتهي بكشف أحد أعظم أسرار الجسم البشري — فيتامين K.
هذا العالم هو هنريك دام (Henrik Dam)، الكيميائي الحيوي الذي غيّر وجه الطب إلى الأبد، ونال جائزة نوبل بفضل اكتشافه.

النشأة والتكوين

تاريخ الميلاد: 21 فبراير 1895
مكان الميلاد: كوبنهاغن، الدنمارك

ولد هنريك دام في عاصمة الدنمارك، في بيئة بحرية وتجارية نشطة. والده كان صانع أدوات، وهذا ما أتاح له منذ الصغر الاحتكاك بالميكانيكا والمواد والأدوات الدقيقة. لم يكن Dam طفلًا عاديًا؛ كان فضوليًا، يفتح الأجهزة ليفهم كيف تعمل، ويقضي الساعات في قراءة الكتب العلمية في مكتبة الحي.

في طفولته، أبدى اهتمامًا خاصًا بالكيمياء، فحوّل غرفة صغيرة في منزل العائلة إلى مختبر مصغر، مستخدمًا أدوات بسيطة لإجراء تجاربه الأولى.

التعليم وبداية التكوين المهني

بدأ Dam دراسته في جامعة كوبنهاغن عام 1914، في تخصص الكيمياء، لكنه سرعان ما انجذب إلى الكيمياء الحيوية، وهو المجال الذي يربط بين الكيمياء وعلم الأحياء. حصل على درجة الماجستير عام 1920، ثم استمر في الأبحاث الأكاديمية حتى حصل على الدكتوراه.

كان تأثره الأكبر بعلماء مثل كريستيان بوهر (شقيق الفيزيائي الشهير نيلز بوهر) الذين زرعوا فيه حب البحث الدقيق والصبر على التجربة.

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

الجدول الزمني لبداية مسيرته:

السنةالحدث
1920تخرّج من جامعة كوبنهاغن بدرجة الماجستير
1923بدأ التدريس في الجامعة
1928عمل على أبحاث الكوليسترول في النظام الغذائي للدواجن
1929لاحظ ظاهرة النزيف غير المفسر في الدجاج

القصة الكبرى بدأت عام 1929، حين كان Dam يدرس تأثير الكوليسترول على الحيوانات. استخدم في تجاربه حمية غذائية خالية من الكوليسترول للدجاج، لكن بعد أسابيع، بدأ الطيور تعاني من نزيف داخلي وخارجي غامض.

ظن في البداية أن الأمر مرتبط بنقص الكوليسترول، لكنه اكتشف أن إعادة الكوليسترول إلى الغذاء لم توقف النزيف! هنا بدأ لغز حياته.

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

بعد سنوات من البحث، توصّل Dam إلى أن هناك مركبًا مجهولًا، ذائبًا في الدهون، يلعب دورًا أساسيًا في عملية تخثر الدم. أطلق عليه اسم “فيتامين K”، مأخوذًا من الكلمة الألمانية Koagulation (التخثر).

قبل اكتشاف Dam:

  • نزيف الدم كان يهدد حياة المرضى والجراحات.
  • لا يوجد علاج فعّال لنقص عوامل التخثر.

بعد اكتشاف Dam:

  • أصبح من الممكن تعويض النقص بفيتامين K.
  • انخفضت وفيات النزيف بشكل هائل.
  • فتح الباب أمام تطوير أدوية مضادة للتجلط وأبحاث التخثر.

اقتباسه الشهير:

“البحث العلمي رحلة تبدأ بسؤال بسيط، لكنها قد تنتهي بإنقاذ حياة ملايين البشر.”

التكريمات والجوائز الكبرى

أهمها جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا لعام 1943، التي شاركها مع العالم الأمريكي إدوارد أ. دويزي، الذي حدد التركيب الكيميائي لفيتامين K.

كما حصل Dam على أوسمة تقدير من الأكاديمية الملكية الدنماركية، وجامعات أوروبية وأمريكية.

التحديات والمواقف الإنسانية

  • خلال الحرب العالمية الثانية، اضطر إلى مواصلة أبحاثه رغم نقص الموارد والمعدات.
  • رفض الانضمام إلى برامج بحثية ذات أغراض عسكرية، مفضلًا التركيز على الأبحاث الطبية.
  • عُرف بتواضعه الشديد، وكان يصر على ذكر فضل فريقه البحثي في كل محفل.

الإرث والتأثير المستمر

اليوم، يعتبر اكتشاف فيتامين K حجر زاوية في جراحة القلب، طب الأطفال، وعلاج أمراض الكبد. كما ألهم اكتشافه أجيالًا من العلماء للعمل على الفيتامينات والهرمونات.

الجانب الإنساني والشخصي

كان Dam عاشقًا للطبيعة والرحلات البحرية، وشارك في مبادرات لتعليم الأطفال أساسيات العلوم. كما دعم مشروعات لتوفير الفيتامينات في الدول الفقيرة.

الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام

قصة هنريك دام تعلمنا أن الفضول العلمي قد يبدأ من سؤال بسيط لكنه يغيّر وجه العالم. لقد جسّد معنى المثابرة، ووضع بصمته في تاريخ الطب الحديث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى