سيرة وولتر رودلف هِس: رحلة إلى أعماق الدماغ وإلى عصب الحياة

1️⃣ المقدّمة: افتتاحية تجذب الانتباه
في صباح 17 مارس 1881، في بلدة فراونفيلد السويسرية، ولد طفل سيغيّر مفاهيمنا عن الدماغ وما وراءه، طفل سيغوص في أماكن عصبية لا يُرى فيها الضوء غالبًا، ولكنه سيثبت أن “الحياة الداخلية” للأعضاء ليست سِرّاً مطبقاً بل خريطة قابلة للرسم. هذا الطفل هو وولتر رودلف هِس، الحائز على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب عام 1949، بفضل «اكتشافه التنظيم الوظيفي للدماغ البيني (interbrain) وجذعه (the brain‑stem) كمنسّق لوظائف الأعضاء الداخلية».
في “سيرة وولتر رودلف هِس” و“حياة وولتر رودلف هِس” نرى كيف تحولت رغبة طفل يلعب في مختبر الفيزياء إلى بحث علمي تأصيلي أشمل من التشريح فحسب، بل إلى خريطة وظائف الدماغ، وإلى إرث علمي يستمر حتى اليوم.
2️⃣ النشأة والتكوين
وُلِد وولتر رودلف هِس في 17 مارس 1881 بمدينة فراونفيلد شرقي سويسرا، لأب يُدرّس الفيزياء يُدعى كليمنس هِس، وأم تُدعى جيرترود فيشر. في المنزل، ظلّ الطفل وولتر يتجول بين أدوات الفيزياء، بفضل تشجيع الأب، وتعلّم منذ طفولته أن “الملاحظة الدقيقة” والفضول العلمي هما مفتاح اللعب الحقيقي.
عاش البيئة السويسرية ذات الطبيعة الخلّابة، وهو ما غذّى عنده الاستقصاء: جولات في الغابات والمروج والبحيرات من حول فراونفيلد ساهمت في تكوين ذلك الحسّ الذي يجمع بين الطبيعة والتجريب.
منذ الصغر، لم يكن وولتر يكتفي بالأسئلة البسيطة: لماذا يتنفّس الإنسان؟ لماذا تنبض القلوب؟ لماذا تتحرّك الأعضاء؟ وهذه الأسئلة – إن لم تكن مطروحة علنًا في طفولته – لكنها تراكمت في ذهنه في سنواته الأولى.
3️⃣ التعليم وبداية التكوين المهني
تلقّى هِس تعليمه الأساسي في المدرسة الثانوية (Gymnasium) في مسقط رأسه، حيث أكملها عام 1900. بعدها، تابع دراسته في الطب بجامعات عديدة: لوزان، برن، برلين، كيل، وزوريخ. كان هدفه أن يكون طبيبًا متخصصًا، وهو ما تحقق فعليًا حين حصل على درجة الدكتور في الطب من جامعة زيوريخ في عام 1906.
في تلك الفترة، بدأ مساره المهني كجراح، ثم كطبيب عيون (ophthalmologist)، مارس العيادة الخاصة بلاپرسويل (Rapperswil). لكنّه لم يشعر بأن هذا المسار هو مجال شغفه النهائي.
في عام 1912، اتخذ القرار الجريء: ترك عيادته المربحة، ليعود إلى البحث في الفيزيولوجيا كمساعد في معهد الفيزيولوجيا بجامعة زيوريخ.
في عام 1917، عُيّن أستاذاً لعلم الفيزيولوجيا ومديراً لمعهد الفيزيولوجيا بجامعة زيوريخ، وهو منصب شغله حتى عام 1951.
جدول زمني مبسّط (من التكوين إلى الانطلاق)
السنة | الحدث |
---|---|
1881 | ولادة وولتر رودلف هِس في فراونفيلد، سويسرا |
1906 | حصوله على دكتوراه الطب من جامعة زيوريخ |
1912 | دخوله مجال البحث في الفيزيولوجيا |
1917 | عُيّن أستاذاً ومديراً لمعهد الفيزيولوجيا |
1949 | حصوله على جائزة نوبل في الفسيولوجيا/الطب |
1951 | بداية تقاعده من الإدارة الرئيسية |
1973 | وفاته في 12 أغسطس بسويسرا |
4️⃣ الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
لم يكن انتقال هِس من ممارس طبٍّ إلى باحث فيزيولوجيا قرارًا سهلاً. لقد خسر الاستقرار المادي والمكانة التي حصدها في عيادته الخاصة، ولذا فقد واجه مقاومة من أقرانه ومن المؤسّسات التي كانت ترى أن التوجه إلى بحث الأساسي أقل ربحاً واستقرارًا.
في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، توجّه هِس إلى دراسة الجهاز العصبي الذاتي (autonomic nervous system) – ذلك الجزء من الجهاز العصبي الذي يتحكّم بوظائف لا إرادية مثل الهضم، التنفس، الإخراج، والضغط الدموي.
أحد التحديات الكبرى: أدواته التجريبية. فقد استخدم أقطاب كهربائية رفيعة لتحفيز القطط الحيّة، مما أثار جدلاً أخلاقياً، لكنّه سمح له، للمرة الأولى، بتحديد مواقع عصبية دقيقة تحكم الهياكل الداخلية للأعضاء.
كان عليه أن يبرهن أن الدماغ ليس فقط مراكزاً للحواس العليا أو التفكير، بل أيضاً “مركز قيادة” للأعضاء الداخلية، وأنه يمكن رسم خريطة دقيقة وسلوكية لهذه الوظائف. وكان هذا ما قاد إلى إنجاز “خريطة الدماغ البيني (diencephalon)”.
5️⃣ الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
من أبرز إنجازات هِس: استطاع أن يحدّد أن “الدماغ البيني” (Diencephalon) – وهي منطقة بين المِهاد (Thalamus) وتحت المِهاد (Hypothalamus) – يلعب دور المنسق للوظائف اللاإرادية: الضغط الدموي، التنفس، الهضم، التبوّل، وحتى النوم.
بإمكانه، باستخدام التحفيز الكهربائي في القطط، أن “يخلق” سلوكًا متوقعًا: مثلاً شجاعتها أو فرارها، أو نومها أو انقباضها، بمجرّد أن يُنبه نقطة معينة في الدماغ.
من قبل إنجازات هِس، كان تصور الجهاز العصبي الذاتي جزئيًا مجرد فرضية، ولم تكن هناك خريطة واضحة لوظائف الأعضاء الداخلية من منظور الدماغ. وبعده، تغيّرت الصورة: أصبحت المعالجة العصبية التقنية للدماغ قادرة على التطبيق في العلاجات والتحفيز العميق للدماغ (Deep Brain Stimulation) وغيره من التقنيات.
اقتباس بارز:
“for his discovery of the functional organization of the interbrain as a coordinator of the activities of the internal organs.”
بفضل إنجازات وولتر رودلف هِس، يُعدّ اليوم علاج اضطرابات النوم، أو التحفيز العميق للدماغ في مرضى باركنسون، امتدادًا علميًا لمساره. وفي العالم العربي، يمكن القول إن “حياة وولتر رودلف هِس” تشكل نموذجًا للباحث الذي انتقل من التشريح إلى الخرائط الوظيفية، ومن الفضول العلمي إلى التأثير الطبي العملي.
6️⃣ التكريمات والجوائز الكبرى
عام 1949 نال هِس جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب– واحدة من أكبر الجوائز العالمية– مشاركًا مع أنطونيو إيجاس مونيز.
من بين الجوائز الأخرى: جائزة مارسل بينويست “Marcel Benoist Prize” عام 1932. كما نال درجات الدكتوراة الفخرية من جامعات برن، جنيف، ماكغيل، وفرايبورغ.
ردود الأفعال: في ذلك الحين، كانت هذه النتائج بمثابة ثورة في علم وظائف الأعضاء العصبية، فتحمّس لها علماء الأعصاب والطب الحيوي، ما ساهم في شحذ الاهتمام بمراكز التحكم الدماغي.
7️⃣ التحديات والمواقف الإنسانية
على رغم إنجازاته، مرّ هِس بتحديات إنسانية وعلمية: تجربة القطط التي استخدمها في أبحاثه أثارت جدلًا أخلاقياً – فكان عليه أن يبرّر تجاربه أمام مناهضي التجربة الحيوانية.
كما أن مرحلة الانتقال من الممارسة الخاصة إلى البحث العلمي (عام 1912) كانت تحمل مخاطر مالية وأسرية، لكنّه تحدّاها. وقد عبّر لاحقًا عن أن “الدقة في العين” التي اكتسبها من فترة طب العيون ساعدته في البحث الفسيولوجي.
إنسانياً، عُرف هِس بمواظبته على تشجيع الأبحاث الشابة، وبدعم البنية التحتية في الجامعة والبحث (مثل تأسيسه لمؤسسة الأبحاث جبل يونغفراو/High Alpine Research Station على ارتفاعات شاهقة عام 1930).
8️⃣ الإرث والتأثير المستمر
إرث سيرة وولتر رودلف هِس ليس مختصرًا في جائزة واحدة، بل في شريط زمني طويل من البحث والتحفيز:
- رسم خريطة لأجزاء الدماغ التي تتحكم بالأعضاء الداخلية.
- فتح المجال لعلم “التحفيز العميق للدماغ” (Deep Brain Stimulation) في علاج الأمراض الحركية والنوم.
- ربط بين علم الفيزيولوجيا العصبية والعلاج النفسي/الجسدي (psycho‑somatic medicine) بحيث أصبح الدماغ والجسد منظومة واحدة تعاونية.
في العالم العربي، تُعد “سيرة وولتر رودلف هِس” مثالًا على كيف تبدأ فكرة صغيرة – مبدأ “ما وراء ما نراه” – وتصبح إنجازًا طبيًا وعلميًا عالميًا.
التأثير المستمر: حتى اليوم، يتم استشهاد أبحاثه وخريطته العصبية في مختبرات النوم، والأبحاث العصبية، وعلاج إعاقات الحركة.
9️⃣ الجانب الإنساني والشخصي
خلف العالم المجتهد، كان وولتر رودلف هِس إنسانًا عاش حياة عائلية هادئة: تزوج لويز ساندماير، وقد أنجبا ابنة (جيرترود) عام 1910، وابنًا (رودولف ماكس هِس) عام 1913.
وكان يقول أحد اقواله التي تلخّص فلسفته:
“الدقة في النظر بداية البحث، والبحث الموضوعي بداية العلاج.”
لم يكن مسارُه مزيجًا من أوراق التجارب والأجهزة العصبية فحسب، بل من المبادئ: المساعي البشرية، والتحفيز العلمي، والدقة التجريبية.
كما أن تأسيسه لقاعدة بحثية في جبل يونغفراو يدل على التزامه بالبحث في أقسى الظروف، ليس فقط كممارسة علمية، بل كرسالة إنسانية: “الفهم يفيد الإنسان، والعلم يخدم الحياة.”
🔟 الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
قصة وولتر رودلف هِس هي أكثر من مجرد إنجاز علمي: إنها نموذج للإصرار ولمهنة تبحث في أعماق ما هو غير مرئي، لتغيّر ما هو مرئي في حياة البشر. من طفل يعايش مختبر والده، إلى عالم رسم خريطة “حياة الأعضاء الداخلية” عبر الدماغ، ثم إلى حائز نوبل، ثم إلى مؤسس إرث يستمر حتى اليوم.
الدروس التي يمكن أن نستخلصها من “سيرة وولتر رودلف هِس” كثيرة:
- الجرأة على تغيير المسار المهني – من الطبيب إلى الباحث.
- الإيمان بأن الفضول العلمي يمكن أن يفتح أبوابًا لتأثير إنساني.
- أن الجسم ليس جهازًا منفصلاً عن الدماغ، بل منظومة مترابطة – ومَن يفهمها يخدم البشرية.
- أن البحث العلمي ليس مجرد تكنولوجيا، بل التزامٌ أخلاقيٌ وإنسانيٌ.
في النهاية، إن “حياة وولتر رودلف هِس” هي رسالة لكل باحث، لكل إنسان يسعى أن “يقرأ ما بين السطور” ليس فقط في الأعصاب، بل في الحياة نفسها.
ولعلّها تلخّص لحظةً مهمةً: في داخل الإنسان، وفي داخل الدماغ، هناك مركزٌ للإنجاز، لكن هناك أيضًا مركزٌ للإنسانية.