شمعة الميلاد: فلسفة الضوء في أدب سعيد الدرمكي – رحلة في الجمال والوعي

مقدمة:
حين يكتب الإنسان عن الميلاد، فإنه لا يكتب عن لحظة زمنية فحسب، بل عن بداية وعيٍ بالحياة، وشرارةٍ تشتعل في الذات لتعلن أن النور قادر على تحدي العتمة. هكذا يبدو لنا كتاب “شمعة الميلاد” للكاتب سعيد الدرمكي، الذي يحمل في عنوانه بساطة الرمز وعمق المعنى، ليغدو العمل أقرب إلى تأمل فلسفي في معنى الوجود والضياء الداخلي، أكثر منه نصًا وصفيًا أو سردًا تقليديًا.
الدرمكي، في هذا العمل، لا يقدم كتابًا يُقرأ بعينٍ عابرة، بل تجربة روحية تتسلل إلى وجدان القارئ، تضعه أمام أسئلة الميلاد والموت والنور والظلمة، وتدعوه إلى تأمل مسار حياته بصفاء شمعة تذوب ببطء لتضيء للآخرين.
أولًا: رمزية العنوان وبنية الضوء
العنوان “شمعة الميلاد” يفتح أمامنا فضاءً تأويليًا واسعًا. فالشمعة، في المخيال الأدبي، ترمز إلى العطاء والاحتراق من أجل الإضاءة، بينما الميلاد يمثل البدء والانبعاث والتجدد. الجمع بينهما يوحي بخلطةٍ فكرية تتجاوز الزمن، إذ إن الكاتب يرى أن كل ميلادٍ حقيقي لا بد أن يكون مقرونًا بنورٍ ينبثق من الذات، كما أن كل نورٍ حقيقي يولد من تجربة ولادةٍ مؤلمة، تمامًا كما تشتعل الشمعة بقدر ما تذوب.
منذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أن الدرمكي لا يتحدث عن ميلادٍ جسديٍّ بل عن ميلادٍ روحيٍّ متجدد، يولد فيه الإنسان من ذاته، بعد أن يواجه ظلامه الداخلي. هذه الرمزية المتكررة تجعل العنوان بوابة تأملية تقود إلى قلب الكتاب، حيث يصبح الضوء استعارةً عن المعرفة، والحكمة، والتطهر من ثقل المادة.
ثانيًا: اللغة بين الشاعرية والتأمل
أسلوب سعيد الدرمكي في هذا الكتاب يمزج بين اللغة الأدبية الرفيعة والنغمة التأملية الهادئة. فهو لا يكتب جملًا تقريرية أو تعليمية، بل يرسم لوحات لغوية مشبعة بالإحساس، تتداخل فيها الاستعارة مع الفكرة، والإيقاع مع المعنى.
يقول في أحد المواضع (بحسب النصوص المقتبسة من الكتاب):
“حين تنطفئ شموع الآخرين من حولك، لا تبحث عن نارٍ جديدة، بل أشعل ذاتك بما تبقى فيك من دفء.”
هذه الجملة وحدها تختصر روح الكتاب. إنها ليست نصيحة أخلاقية، بل تجسيد أدبي لفلسفة النور الداخلي. الكاتب يدعو القارئ إلى أن يكون مصدر نوره، لا تابعًا لأضواء الآخرين، وكأن الشمعة التي يحتفي بها الكتاب ليست إلا رمز الذات التي تكتشف قيمتها عبر الاحتراق الجميل.
في مواضع أخرى، نلمح تأثر الدرمكي بالشعر العربي الحديث، وبالأسلوب التأملي الصوفي الذي يجعل الكلمة جسدًا للمعنى لا مجرد وسيلة للتعبير عنه. فهو يكتب بلغةٍ تحاور القارئ أكثر مما تخاطبه، تجعل من كل فصل رحلة داخلية، ومن كل فقرة اعترافًا ناعمًا بأن الإنسان يولد مرات عديدة في حياته، وليس مرة واحدة فقط.
ثالثًا: بنية الكتاب ومراحل الميلاد الرمزي
يقسّم الدرمكي كتابه إلى فصولٍ متتابعة يمكن قراءتها كوحداتٍ مستقلة، لكنها، في الجوهر، تشكل خيطًا واحدًا من الوعي والبحث عن النور.
كل فصل يرمز إلى مرحلة من مراحل الميلاد الروحي، بدءًا من الظلام الأول، مرورًا بـ الوميض الخافت، وصولًا إلى الاحتراق المضيء، ثم الانطفاء الهادئ.
وهذه المراحل ليست مجرد محطات سردية، بل بنية رمزية تتحدث عن رحلة الإنسان في الحياة:
- يولد في ظلمة الجهل والخوف،
- ثم يكتشف نوره الداخلي،
- ثم يبدع ويمنح،
- ثم يذوب في عطاءٍ خالصٍ لا ينتظر مقابلاً.
إنها رحلة الذات من الظل إلى النور، ومن الأنانية إلى البذل، ومن المادية إلى المعنى. وفي هذا البناء، يقترب الدرمكي من أسلوب الفلاسفة الشعراء الذين جعلوا من الكتابة طقسًا روحانيًا، مثل جبران خليل جبران أو إيليا أبو ماضي، حيث تتماهى اللغة مع الفكرة في انسجامٍ جميل.
رابعًا: الإنسان في مرآة الشمعة
المحور الإنساني في كتاب “شمعة الميلاد” هو القلب النابض الذي يربط بين الفكرة والفن. فالدرمكي لا يكتب عن الشمعة بوصفها جمادًا، بل بوصفها كائنًا حيًا يحمل روح الإنسان نفسه.
في إحدى المقاطع المؤثرة، يقول:
“الشمعة لا تخاف من الذوبان، لأنها تؤمن أن كل لحظة احتراق هي حياة جديدة لمن حولها.”
هنا يبلغ النص قمته الجمالية والرمزية. فالشمعة هي الأم، والمعلم، والمحب، وكل إنسانٍ يهب ذاته للآخرين.
الكاتب يرسم عبر هذا التشبيه لوحةً إنسانية عميقة، يُظهر فيها كيف أن قيمة الإنسان ليست بما يحتفظ به من نور، بل بما يهبه للعالم وهو يذوب في صمته.
وهذه الفلسفة، التي تبدو في ظاهرها مثالية، تحمل في عمقها دعوة إلى البساطة، والإيثار، والإيمان بالمعنى في زمنٍ طغت فيه المادة على الروح.
خامسًا: البعد الفلسفي – الضوء كوجود
يستطيع القارئ المتمعّن أن يلاحظ أن الدرمكي، وإن لم يُعلن نفسه فيلسوفًا، إلا أنه يكتب بفكرٍ فلسفي عميق. فالضوء في كتابه ليس مجرّد إشارة حسّية، بل هو رمز الوجود والمعرفة والوعي.
الكاتب يستلهم من فكرة النور أبعادًا ميتافيزيقية تشبه ما ورد في الفلسفة الإسلامية القديمة، حين كان النور هو مبدأ الوجود الأول (كما عند السهروردي في “حكمة الإشراق”).
فالدرمكي يُعيد صياغة هذه الفكرة بلغة عصرية، ليقول للقارئ إن النور هو الوعي، وإن الميلاد الحقيقي هو وعي الإنسان بذاته وبقيمته.
ولذلك، فالشمعة في فلسفته ليست ضوءًا فحسب، بل كائن يربط بين الوجودين: المادي والروحي. فهي تحترق لتُظهر أن المعنى لا يعيش إلا حين يفنى الجسد في سبيله.
سادسًا: الأسلوب الفني والصورة البلاغية
يعتمد الدرمكي في كتابه على الصور البلاغية المكثفة، واللغة الإيحائية التي تمزج بين الدهشة والبساطة.
نقرأ مثلاً:
“الظلام لا يُهزم بالجدال، بل بنقطة ضوءٍ صغيرة تجرؤ على الظهور.”
هذه الجملة تحمل بلاغة عالية تتجاوز التوصيف إلى الرؤية. فالكاتب يجعل من الضوء فعل شجاعة، ومن الكتابة مقاومة رمزية للعتمة.
في مثل هذه العبارات، يبرز الحس الأدبي لدى المؤلف، وقدرته على تحويل الفكرة المجردة إلى صورة حسّية نابضة.
كما أن الجمل القصيرة، والإيقاع الهادئ، والاعتماد على التوازي اللفظي، يمنح النص موسيقى داخلية تشبه ترتيل الحكمة أكثر مما تشبه الخطاب المباشر.
سابعًا: البعد الوجداني والتأمل الداخلي
من أجمل ما في “شمعة الميلاد” أنه ليس كتابًا يُقرأ بعقلٍ فقط، بل يُحسّ بالقلب.
الدرمكي يكتب من عمق التجربة الإنسانية، وكأنه يدعو القارئ إلى رحلة صفاء ذاتي.
كلماته تشبه الاعترافات، لكنها ليست اعترافات ضعف، بل بوح يقيني بأن الإنسان يستطيع أن يجد خلاصه في داخله.
في أحد المقاطع، يقول:
“لا شيء يعيدك إلى نفسك مثل لحظة احتراقٍ صامتة، حين ترى في دخانها ملامحك القديمة ترحل.”
إنها لغة شعرية تنقل الألم إلى حكمة، وتحول التجربة الشخصية إلى رؤية كونية.
الكاتب هنا لا يعظ، بل يتأمل، ولا يفرض معنى، بل يترك القارئ ليجد معناه الخاص. وهذا ما يجعل الكتاب قابلًا لإعادة القراءة في كل مرحلة من حياة الإنسان.
ثامنًا: العلاقة بين الذات والآخر
يتناول الدرمكي في بعض فصول الكتاب مسألة العطاء والتواصل الإنساني. يرى أن الإنسان، كشمعةٍ، لا يُدرك ذاته إلا حين ينير طريق غيره.
لكنه في الوقت نفسه يحذر من الاحتراق الكامل الذي يترك الروح رمادًا، داعيًا إلى التوازن بين الإضاءة والبقاء.
إنها معادلة دقيقة بين الأنانية الحميدة والإيثار النبيل، بين أن تعيش لنفسك وأن تضيء لغيرك.
هذا الطرح يجعل من “شمعة الميلاد” كتابًا عن الفلسفة الإنسانية في العطاء، حيث يصبح النور وسيلة لفهم العلاقات البشرية، لا مجرد صورة رمزية.
تاسعًا: البنية الإيقاعية والبعد الفني
من الناحية الأدبية، يمكن تصنيف “شمعة الميلاد” ضمن الأدب التأملي المعاصر الذي يجمع بين الحكمة والسرد الرمزي.
الكاتب يستخدم جملًا قصيرة ذات إيقاع متوازن، مما يجعل النص قريبًا من النصوص النثرية الشعرية.
كما أن تنويع الفقرات بين السرد والوصف، وبين المقاطع التأملية والمقتطفات الفلسفية، يمنح القارئ شعورًا بأنه يقرأ نصًا يتنفس، لا يخبر فقط بل يُشعر.
عاشرًا: الدلالات الختامية – الشمعة التي لا تنطفئ
في ختام الكتاب، يترك الدرمكي القارئ أمام صورةٍ رمزية:
شمعةٌ تذوب ببطء، لكن نورها يملأ المكان.
إنها النهاية التي تختصر فلسفة الكتاب كلها:
أن الحياة، مهما كانت قصيرة، قادرة على أن تترك أثرًا مضيئًا، وأن الإنسان يولد كل يومٍ حين يختار أن يضيء بدل أن يلعن الظلام.
“شمعة الميلاد” ليست مجرد صفحات من الكلمات، بل تجربة وجودية تسعى إلى إعادة تعريف النور في حياة الإنسان.
هي دعوة إلى أن نعيش بشفافية، وأن نحترق بوعي، وأن ندرك أن كل ميلادٍ فينا هو بداية رحلة نحو ضوءٍ أصفى وأجمل.
خاتمة:
يقدّم سعيد الدرمكي في هذا العمل عملاً أدبيًا راقيًا يمزج بين الحكمة والتأمل، والشعر والفكر، والنور والظلال.
إنه نصٌّ إنساني يذكّر القارئ بأن الميلاد ليس لحظة ولادة الجسد، بل لحظة وعي الروح بذاتها.
“شمعة الميلاد” كتابٌ يُقرأ مرةً بالعقل، ومرةً بالقلب، ومرةً أخرى حين ينطفئ كل شيء من حولك وتحتاج إلى ضوءٍ صغيرٍ يذكّرك أنك ما زلت حيًا.
لمعرفة المزيد: شمعة الميلاد: فلسفة الضوء في أدب سعيد الدرمكي – رحلة في الجمال والوعي