شِبْه حرب: تسليح وسائل التواصل الاجتماعي – قراءة معمّقة في كتاب بي دبليو سينجر

تمهيد
لم تعد الحروب في القرن الحادي والعشرين مجرد صراعٍ على الأرض أو مواجهةً عسكرية في ميادين القتال التقليدية. لقد تغيّرت المعادلات، وانقلبت موازين القوى مع بزوغ عالمٍ جديدٍ يسيطر عليه الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي. فاليوم، لا تحتاج الدول ولا الجماعات إلى الجيوش الجرّارة أو الدبابات والصواريخ كي تخوض معاركها؛ بل يكفيها هاتفٌ ذكي، وحسابٌ على تويتر أو فيسبوك، وجيشٌ من المتابعين والمتحمّسين.
هذا ما يتناوله الكاتب والباحث الأمريكي بي دبليو سينجر في كتابه الصادر عام 2022 بعنوان “شِبْه حرب: تسليح وسائل التواصل الاجتماعي” (LikeWar: The Weaponization of Social Media). في هذا العمل الفكري العميق، يفتح سينجر أعين القارئ على عالمٍ جديد من النزاعات، حيث تتحول التغريدة إلى رصاصة، والمقطع القصير إلى قنبلة إعلامية، وحيث تُدار السياسات والحروب والثورات من خلال شاشات صغيرة في أيدي مليارات البشر.
المؤلف والكتاب
بي دبليو سينجر هو واحد من أبرز الباحثين في مجال الأمن الدولي والتكنولوجيا والسياسة الحديثة. اشتُهر بكتبه التي تناقش تحوّلات الحرب في عصر التكنولوجيا، مثل كتابه عن الروبوتات العسكرية و”حروب القرن الجديد”. في كتابه هذا، يسعى سينجر إلى إثبات أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد منصات للتسلية أو التفاعل الاجتماعي، بل تحولت إلى ساحات قتال جديدة، تُدار فيها الحملات الدعائية، وتُزرع فيها الأخبار المضلّلة، وتُشنّ عبرها الهجمات النفسية والسياسية.
عالم جديد من الحروب الناعمة
يصف سينجر كيف بات العالم اليوم يعيش في حالة “شِبْه حرب” – أي صراع مستمر لا يصل إلى مستوى الحرب الكاملة، لكنه أيضاً يتجاوز مجرد المنافسة السلمية. في هذا العالم، لم تعد الحقيقة وحدها كافية، بل صارت القصة الأكثر انتشاراً هي التي تنتصر، بغضّ النظر عن صدقيتها.
يضرب الكاتب أمثلة حيّة من الواقع:
- استخدام تنظيم داعش لمواقع التواصل لتجنيد الشباب وإقناعهم بالقتال في صفوفه، حيث تحولت الصور والفيديوهات الممنتجة ببراعة إلى أدواتٍ أخطر من الأسلحة النارية.
- استغلال السياسيين الشعبويين مثل دونالد ترامب لهذه المنصات لتوجيه الرأي العام وبناء هالةٍ إعلامية تعزز نفوذهم.
- لجوء روسيا إلى حملاتٍ رقمية واسعة للتأثير على الانتخابات في الغرب، عبر ما يُعرف بـ”المزارع الإلكترونية” وجيوش الحسابات المزيّفة.
وسائل التواصل كسلاح مزدوج
يشير الكتاب إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أشبه بـ سيفٍ ذي حدّين:
- فهي تمكّن الناس من التعبير عن آرائهم، وكشف الحقائق، وكسر احتكار السلطة للإعلام.
- لكنها أيضاً تتيح للأنظمة القمعية والجماعات المتطرّفة أن تنشر دعايتها وتبثّ سمومها على نطاق عالمي.
ولعلّ أخطر ما في الأمر، بحسب سينجر، هو أن هذا السلاح لا يتطلب ميزانيات ضخمة، ولا قدرات عسكرية تقليدية. يكفي أن يمتلك الطرف الفاعل القدرة على صناعة محتوى مؤثّر، وتوجيهه في اللحظة المناسبة ليُحدث زلزالاً سياسياً أو اجتماعياً.
المعركة على العقول
أحد أبرز المحاور التي يناقشها الكتاب هو أن الحروب الرقمية ليست معارك على الأرض أو الموارد، بل هي معارك على العقول. من ينجح في السيطرة على وعي الناس ومشاعرهم، يحقق الانتصار حتى لو لم يُطلق رصاصة واحدة.
وهنا تظهر أهمية ما يسميه سينجر بـ “اقتصاد الانتباه”. فالمنافسة لم تعد على الحقيقة بقدر ما هي على القدرة على جذب الانتباه، لأن ما يتصدّر شاشات المستخدمين هو الذي يحدد اتجاهاتهم وآراءهم، بل وحتى سلوكياتهم السياسية والاجتماعية.
خوارزميات تتحكم في البشر
يكشف سينجر أيضاً كيف أصبحت الخوارزميات التي تدير شبكات التواصل بمثابة قادة غير مرئيين. فهي تحدد ما نراه وما لا نراه، ما ينتشر وما يختفي، من دون أي وعي من المستخدم. هذه الخوارزميات صُمّمت أساساً لزيادة التفاعل والوقت الذي يقضيه الفرد على المنصة، لكنها في الواقع تشجّع على المحتوى المثير للجدل، والصادم، والعاطفي، لأنه يحصد تفاعلاً أكبر.
وهكذا، تتحول المنصات إلى أرض خصبة للتضليل والكراهية والدعاية، وهو ما يجعلها بيئة مثالية للحروب المعلوماتية.
قصص واقعية
يستعرض الكتاب مجموعة من القصص الواقعية التي تبرز خطورة “شِبْه الحرب”:
- حملة التضليل الروسية في أوكرانيا قبل الحرب العسكرية المباشرة، حيث تم استخدام آلاف الحسابات لنشر أخبار كاذبة وزرع الشكوك بين المواطنين.
- انتخابات الولايات المتحدة 2016 التي شهدت تدخلاً رقمياً غير مسبوق لتأثير على الناخبين عبر فيسبوك وتويتر.
- انتفاضات العالم العربي التي كشفت قوة وسائل التواصل في إشعال الثورات، لكنها في الوقت نفسه كشفت هشاشة هذه القوة أمام قدرة الأنظمة على استغلالها لمصالحها.
البعد الأخلاقي
لا يغفل سينجر البعد الأخلاقي لهذه التحولات. فهو يتساءل: من المسؤول عن هذا السلاح الجديد؟ هل هي الشركات المالكة للمنصات، أم الحكومات، أم المستخدمون أنفسهم؟ وكيف يمكن وضع ضوابط أخلاقية وقانونية لمنع تحوّل هذه الأدوات إلى قنابل رقمية تهدد السلم العالمي؟
الدروس المستفادة
من خلال كتابه، يقدّم سينجر للقارئ مجموعة من الدروس المهمة:
- الوعي هو خط الدفاع الأول: يجب أن يدرك المستخدم أنه جزء من المعركة، وأن كل نقرة وإعجاب ومشاركة قد تكون أداة في يد أطراف أكبر.
- التربية الرقمية ضرورة: على المجتمعات أن تدرّب أفرادها على التحقق من الأخبار ومقاومة التضليل.
- المسؤولية الجماعية: لا يمكن مواجهة “شبه الحرب” إلا من خلال تعاون الأفراد والحكومات والشركات.
لماذا نقرأ هذا الكتاب اليوم؟
تكمن أهمية الكتاب في أنه يضعنا أمام مرآة الواقع. فالعالم لم يعد كما كان قبل عقدين من الزمن؛ نحن نعيش في قرية رقمية مسلّحة، حيث تتحكم الصور والفيديوهات والتغريدات في مسار السياسات والحروب.
إن فهم ما يطرحه بي دبليو سينجر ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة وجودية لكل دولة ومجتمع وفرد، لأن من لا يدرك طبيعة هذه الحرب الجديدة سيكون أول ضحاياها.
خاتمة
“شِبْه حرب: تسليح وسائل التواصل الاجتماعي” ليس مجرد كتاب عن التكنولوجيا أو الإعلام، بل هو عملٌ يقدّم خريطة لفهم عالمنا الجديد، حيث أصبحت الحقيقة نفسها ساحة معركة. إنه دعوة للاستيقاظ من الغفلة، وإدراك أن الهواتف الذكية التي نحملها يومياً قد تكون أخطر من المدافع، وأن التغريدة قد تغيّر مصير أمة بأكملها.
هذا الكتاب يضعنا أمام مسؤولية مشتركة: إما أن نستخدم وسائل التواصل لبناء عالم أكثر وعياً وعدلاً، أو نتركها تتحول إلى ساحة حربٍ دائمة تُهدد حاضرنا ومستقبلنا.
لمعرفة المزيد: شِبْه حرب: تسليح وسائل التواصل الاجتماعي – قراءة معمّقة في كتاب بي دبليو سينجر