صرخة شوق على أعتاب بغداد.. الليلة ٧١

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنّهم أقاموا في مدينة حماة ثلاثة أيام، ثم سافروا، وما زالوا مسافرين حتى وصلوا إلى مدينة أخرى، فأقاموا بها ثلاثة أيام، ثم سافروا حتى وصلوا إلى ديار بكر، وهبَّ عليهم نسيم بغداد، فتذكّر ضوء المكان أخته نزهة الزمان، وأباه وأمّه ووطنه، وكيف يرجع إلى أبيه بغير أخته. فبكى وأنَّ واشتكى، واشتدّت به الحسرات، فأنشد هذه الأبيات:
خَـلِـيـليَّ كُـمْ هـذا التَّأَنِّي وأصبِـرُ
ولم يأتِني منكم رسولٌ يُخبِـرُ
ألا إنَّ أيّامَ الوِصالِ قصيرةٌ
فيا ليتَ أيّامَ التفرُّقِ تَقصُرُ
خُذوا بيدي ثم اكشفوا الثوبَ وانظروا
ضنى جسدي لكنني أتصبّرُ
فإن تطلبوا مني سُلوًّا أَقُلْ لكم
فواللهِ ما أسلو إلى حين أُحشَرُ
فلما انتهى من شعره، قال له الوقّاد: اترك هذا البكاء والأنين، فإنّا قريبون من خيمة الحاجب.
فقال ضوء المكان: لا بدّ من إنشادي شيئًا من الشعر؛ لعلّ نار قلبي تنطفئ.
فقال له الوقّاد: بالله عليك أن تترك الحزن حتى تصل إلى بلادك، وافعل بعد ذلك ما شئت، وأنا معك حيثما كنت.
فقال ضوء المكان: واللهِ لا أفتر عن ذلك.
ثم التفت بوجهه إلى ناحية بغداد، وكان القمر مضيئًا، وكانت نزهة الزمان لم تنم تلك الليلة؛ لأنها تذكّرت أخاها ضوء المكان، فقلقت وصارت تبكي. فبينما هي تبكي إذ سمعت أخاها ضوء المكان يبكي، وينشد هذه الأبيات:
لَمَعَ البرقُ اليمانيُّ فشجاني
ما شجاني من حبيبٍ كان عندي
ساقيًا كأسَ التهاني
يا وميضَ البرقِ هل ترجعُ أيامُ التّداني
يا عذولي لا تَلُمْني
إن ربي قد بلاني
بحبيبٍ غاب عني
وزمانٍ قد دهاني
قد أتت نزهةُ قلبي
عندما ولّى زماني
وحوى لي الهمُّ صِرفًا
وبكأسٍ قد سَقاني
وأُراني يا خليلي
متُّ من قبل التداني
يا زمانًا للتصابي
عُدْ قريبًا بالتهاني
في سرورٍ مع أمانٍ
من لِسَهْمٍ قد رمانِي
من لِمسكينٍ غريبٍ
باتَ مرعوبَ الجَنانِ
صار في الحزنِ فريدًا
بعد نُزهاتِ الزمانِ
حُكِّمَتْ فينا برغمٍ
كفَّ أولادِ الزواني
فلما فرغ من شعره صاح وخرَّ مغشيًّا عليه.
هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر نزهة الزمان، فإنها كانت ساهرةً في تلك الليلة؛ لأنها تذكّرت أخاها في ذلك المكان. فلما سمعت ذلك الصوت بالليل ارتاح فؤادها، وقامت وتنحنحت، ودعت الخادم.
فقال لها: ما حاجتك؟
فقالت له: قُم وائتني بالذي ينشد هذه الأشعار.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.



