صفقة لم تكتمل… بين التاجر والبدوي والجارية.. الليلة ٥٦

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن البدوي لما أعطى نزهة الزمان قرص الشعير، ووعدها أن يبيعها لرجلٍ جيدٍ مثله، قالت له: نِعْمَ ما تفعل.
فلما انتصف الليل وأحرَقَها الجوع، أكلت من قرص الشعير شيئًا يسيرًا. ثم إن البدوي أمر جماعته أن يسافروا، فحملوا الجِمال، وركب البدوي جملاً، وأردف نزهة الزمان خلفه، وساروا وما زالوا سائرين مدة ثلاثة أيام، ثم دخلوا مدينة دمشق، ونزلوا في خان السلطان بجانب باب الملك.
وقد تغيّر لون نزهة الزمان من الخوف وتعب السفر، فصارت تبكي من أجل ذلك، فأقبل عليها البدوي وقال لها:
يا حرمة، وحق طُرطوري، إن لم تتركي هذا البكاء لا أبيعك إلا ليهودي!
ثم إنه قام وأخذ بيدها وأدخلها في مكان، وتمّ إلى السوق، ومرّ على التجار الذين يتجرون في الجواري، وصار يكلّمهم، ثم قال لهم:
عندي جارية أتيت بها معي، وأخوها ضعيف، فأرسلته إلى أهلي في مدينة القدس لأجل أن يداووه حتى يبرأ، وقصدي أن أبيعها، ومنذ يوم ضعف أخيها وهي تبكي، وقد صعب عليها فراقه، وأريد أن الذي يشتريها مني يلين لها الكلام، ويقول لها: إن أخاكِ عندي في القدس ضعيف، وأنا أرخص له ثمنها.
فنهض له رجل من التجار وقال له: كم عمرها؟
فقال: هي بكرٌ بالغة، ذات عقلٍ وأدبٍ وفطنةٍ وحُسنٍ وجمال، ومن حين أرسلتُ أخاها إلى القدس اشتغل قلبها به، وتغيّرت محاسنها، ونزل سمنها.
فلما سمع التاجر ذلك تمشّى مع البدوي وقال له:
اعلم يا شيخ العرب أني أروح معك وأشتري منك الجارية التي تمدحها وتشكر عقلها وأدبها وحسنها وجمالها، وأعطيك ثمنها، وأشترط عليك شرطًا: إن قبلتها نقدتُ لك ثمنها، وإن لم أقبلها رددتها عليك.
فقال له البدوي: إن شئت فاصعد بها إلى السلطان، واشترط عليّ ما شئت من الشروط، فإنك إذا أوصلتها إلى الملك شركان بن الملك عمر النعمان صاحب بغداد وخراسان، ربما تليق بعقله فيعطيك ثمنها، ويُكثِر لك الربح فيها.
فقال له التاجر: وأنا لي عند السلطان حاجة، وهو أن يكتب إلى والده عمر النعمان بالوصية عني، فإن قبل الجارية مني وزنتُ لك ثمنها في الحال.
فقال له البدوي: قبلتُ منك هذا الشرط.
ثم مشى الاثنان إلى أن أقبلا على المكان الذي فيه نزهة الزمان، ووقف البدوي على باب الحجرة وناداها:
يا ناجية! (وكان سماها بهذا الاسم)، فلما سمعته بكت ولم تجبه.
فالتفت البدوي إلى التاجر وقال له: ها هي قاعدة، دونك إياها، فأقبل عليها وانظرها ولاطفها مثلما أوصيتك.
فتقدم التاجر إليها فرآها بديعة في الحسن والجمال، لا سيما وكانت تعرف بلسان العرب، فقال التاجر: إن كانت كما وصفتَ لي، فإني أبلغ بها عند السلطان ما أريد.
ثم إن التاجر قال لها: السلام عليكِ يا بنية، كيف حالك؟
فالتفتت إليه وقالت: ﴿كان ذلك في الكتاب مسطورًا﴾.
ونظرت إليه فإذا هو رجل ذو وقار ووجه حسن، فقالت في نفسها: أظن أن هذا جاء يشتَريني، ثم قالت: إن امتنعتُ منه بقيتُ عند هذا الظالم فيهلكني من الضرب، فعلى كل حال هذا رجل وجهه حسن، وهو أرجى للخير من هذا البدوي الجلف، ولعله ما جاء إلا ليسمع منطقي، فأنا أجيبه جوابًا حسنًا.
كل ذلك وعينُها في الأرض، ثم رفعت بصرها إليه وقالت له بكلامٍ عذب:
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا سيدي، بهذا أمر النبي ﷺ.
وأما سؤالك عن حالي، فإن شئتَ أن تعرفه فلا تتمنَّه إلا لأعدائك.
ثم سكتت، فلما سمع التاجر كلامها طار عقله فرحًا بها، والتفت إلى البدوي وقال له: كم ثمنها؟ فإنها جليلة!
فاغتاظ البدوي وقال له: أفسدتَ عليّ الجارية بهذا الكلام! لأي شيء تقول إنها جليلة مع أنها من رعاع الناس؟ فأنا لا أبيعها لك!
فلما سمع التاجر كلامه، عرف أنه قليل العقل، فقال له:
طِبْ نفسًا، وَقَرَّ عينًا، فأنا أشتريها على هذا العيب الذي ذكرتَه.
فقال البدوي: وكم تدفع لي فيها؟
فقال له التاجر: ما يُسَمِّي الولدَ إلا أبوه، فاطلب فيها مقصودك.
فقال له البدوي: ما يتكلم إلا أنت.
فقال التاجر في نفسه: إن هذا البدويَّ جلفٌ يابس الرأس، وأنا لا أعرف لها قيمةً إلا أنها ملكت قلبي بفصاحتها وحُسن منظرها، وإن كانت تكتب وتقرأ، فهذا من تمام النعمة عليها، وعلى من يشتريها.
لكن هذا البدوي لا يعرف لها قيمة.
ثم التفت إلى البدوي وقال له: يا شيخ العرب، أدفع لك فيها مائتي دينار سالمةً إلى يدك، غير الضمان وقانون السلطان.
فلما سمع ذلك البدوي اغتاظ غيظًا شديدًا، وصاح على التاجر وقال له:
قُمْ إلى حال سبيلك!
لو أعطيتني مائتي دينار في هذه القطعة — العباءة التي عليها — ما بعتُها لك، فأنا لا أبيعها، بل أُبقيها عندي ترعى الجمال وتطحن الطحين!
ثم صاح عليها وقال:
تعالي يا منتنة، أنا لا أبيعك!
ثم التفت إلى التاجر وقال له:
كنتُ أحسبك أهل معرفة، وحق طرطوري، إن لم تذهب عني، لأسمعنّك ما لا يرضيك!
فقال التاجر في نفسه: إن هذا البدوي مجنون، ولا يعرف قيمتها، ولا أقول له شيئًا في ثمنها في هذا الوقت، فإنه لو كان صاحب عقلٍ، ما قال: وحق طرطوري!
واللهِ إنها لتساوي خزنةً من الجواهر، وما معي ثمنها، ولكن إن طلب مني ما يريد أعطيتُه إياه، ولو أخذ جميعَ مالي.
ثم التفت إلى البدوي وقال له:
يا شيخ العرب، طوِّل بالك، وقل لي: ما لها من القماش عندك؟
فقال البدوي: وما تفعل قطّاعة الجواري هذه بالقماش؟!
والله إن هذه العباءة التي هي ملفوفة فيها كثيرةٌ عليها!
فقال له التاجر: عن إذنك، أكشف عن وجهها، وأُقَلِّبها كما يُقَلِّب الناس الجواري لأجل الشراء.
فقال له البدوي: دونك وما تريد، الله يحفظ شبابك، فقَلِّبْها ظاهرًا وباطنًا، وإن شئت فَعِرِّها الثيابَ، ثم انظرها وهي عُريانة!
فقال التاجر: معاذ الله! أنا ما أنظر إلا وجهها.
ثم إن التاجر تقدم إليها، وهو خجلان من حسنها وجمالها.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.



