صفية والروم: بين أنوار المهد وطبول الحرب..الليلة ٤٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شَرْكان لما علم أن جارية أبيه قد حملت، اغتمَّ وعَظُم عليه ذلك، وقال:
“قد جاءني من ينازعني في المملكة.”
فأضمر في نفسه: إن هذه الجارية إن ولدت ولدًا ذكرًا قتلته.
وكتم ذلك في نفسه.
هذا ما كان من أمر شركان، وأما ما كان من أمر الجارية، فإنها كانت رومية، وكان قد بعث بها إليه هديةً ملكُ الروم صاحب قيصرية، وأرسل معها تحفًا كثيرة، وكان اسمها صفية. وكانت أحسن الجواري وأجملهن وجهًا، وأصونهن عرضًا، وكانت ذات عقل وافر وجمال باهر.
وكانت تخدم الملك ليلة مبيته عندها، وتقول له:
“أيها الملك، كنتُ أشتهي من إله السماء أن يرزقك مني ولدًا ذكرًا حتى أُحسن تربيته لك، وأبالغ في أدبه وصيانته.”
فيفرح الملك ويعجبه ذلك الكلام، فلا تزال على تلك الحال حتى كملت أشهرها، وجلست على كرسي الطلق. وكانت على صلاح، تُحسن العبادة، فتصلي وتدعو الله أن يرزقها بولد صالح، ويسهل عليها ولادته.
فتقبل الله منها دعاءها.
وكان الملك قد وكَّل بها خادمًا يخبره بما تضعه: أهو ذكر أم أنثى؟
وكذلك ابنه شركان أرسل من يعرفه بذلك.
فلما وضعت صفية ذلك المولود، تأملته القوابل فوجدنه بنتًا بوجهٍ أبهى من القمر، فأعلمن الحاضرين بذلك، فرجع رسول الملك وأخبره، وكذلك رسول شركان أخبره، ففرح فرحًا شديدًا.
فلما انصرف الخِدام قالت صفية للقوابل:
“أمهلْنَ عني ساعة، فإني أحسّ أن أحشائي فيها شيء آخر.”
ثم تأوهت وجاءها الطلق ثانية، فسهل الله عليها، فوَضعت مولودًا ثانيًا، فنظرت إليه القوابل فوجدنه ولدًا ذكرًا يشبه البدر، بجبينٍ أزهر وخدٍّ أحمر مورّد.
ففرحت به الجارية والخدام والحشم وكل من حضر، ورمت صفية الخلاص، وقد أطلقوا الزغاريد في القصر، فسمع بقية الجواري بذلك فحسدنها.
وبلغ عمر النعمان الخبر، ففرح واستبشر، وقام ودخل عليها، فقبَّل رأسها، ونظر إلى المولود، ثم انحنى عليه فقبَّله.
وضربت الجواري بالدفوف ولعبت بالآلات، وأمر الملك أن يُسمّى المولود ضوء المكان وأخته نُزهة الزمان، فامتثلوا أمره وأجابوه بالسمع والطاعة.
وأفرد لهم الملك من يخدمهم من المراضع والخُدّام والحشم والدايات، ورتّب لهم الرواتب من السكر والأشربة والأدهان وغير ذلك مما يَكِلُّ عن وصفه اللسان.
وسمع أهل دمشق بما رزق الله الملك من الأولاد، فزُيّنت المدينة وأظهرت الفرح والسرور، وأقبل الأمراء والوزراء وأرباب الدولة فهنّأوا الملك عمر النعمان بولده ضوء المكان وبنته نزهة الزمان.
فشكرهم الملك على ذلك، وخلع عليهم، وزاد في إكرامهم من الإنعام، وأحسن إلى الحاضرين من الخاص والعام.
وما زال على تلك الحالة حتى مضت أربعة أعوام، وهو بعد كل قليل من الأيام يسأل عن صفية وأولادها.
وبعد الأربعة أعوام أمر أن يُنقل إليها من المصاغ والحُليّ والحلل والأموال شيء كثير، وأوصاها بتربيتهما وحسن أدبهما.
كل هذا وابن الملك شركان لا يعلم أن والده عمر النعمان قد رُزق ولدًا ذكرًا، بل كان يظن أنه رُزق سوى نزهة الزمان فقط، فأخفوا عنه خبر ضوء المكان.
حتى مضت أيام وأعوام، وهو مشغول بمقارعة الشجعان ومبارزة الفرسان، فبينما عمر النعمان جالسٌ يومًا من الأيام، إذ دخل عليه الحُجّاب فقبّلوا الأرض بين يديه، وقالوا:
“أيها الملك، قد وصل إلينا رُسل من ملك الروم صاحب القسطنطينية العظمى، ويريدون الدخول عليك والتمثل بين يديك، فإن أذنتَ لهم بذلك أدخلناهم، وإلا فلا مردّ لأمرك.”
فعند ذلك أذن لهم بالدخول، فلما دخلوا عليه مال إليهم وأقبل عليهم، وسألهم عن حالهم وما سبب إقبالهم، فقبّلوا الأرض بين يديه وقالوا:
“أيها الملك الجليل، صاحب الباع الطويل، اعلم أن الذي أرسلنا إليك هو الملك أفريدون، صاحب البلاد اليونانية والعساكر النصرانية، المقيم بمملكة القسطنطينية.
يُعلِمُك أنه اليوم في حربٍ شديدةٍ مع جبارٍ عنيدٍ، وهو صاحب قيصرية.
والسبب في ذلك أن أحد ملوك العرب اتفق أنه وجد في بعض الفتوحات كنزًا من قديم الزمان، من عهد الإسكندر، فنقل منه أموالًا لا تُحَدّ.
ومن جملة ما وجد فيه ثلاث خرزات مدوّرات على قدر بيض النعام، وتلك الخرزات من أغلى الجواهر البيضاء الخالصة التي لا يوجد لها نظير، وكل خرزة منقوش عليها بالقلم اليوناني أمور من الأسرار، ولهنّ منافع وخواص كثيرة.
ومن خواصهن أن كل مولودٍ عُلِّقت عليه خرزةٌ منهن لم يُصَب بألمٍ ما دامت الخرزة معلقة عليه، ولا يُحمّ ولا يسخن.”
فلما وضع يده عليها، ووقف بها، وعرف ما فيها من الأسرار، أرسل إلى الملك أفريدون هدايا من التحف والمال، ومن جملتها الثلاث خرزات، وجهّز مركبين: واحدة فيها المال والأخرى فيها رجالٌ يحفظون تلك الهدايا ممّن يتعرّض لها في البحر.
وكان يعرف من نفسه أنه لا أحد يقدر أن يتعدّى على مراكبه، لكونه ملك العرب، لا سيما وأن طريق المراكب التي فيها الهدايا في البحر الذي هو في مملكة ملك القسطنطينية، وهي متوجّهة إليه، وليس في سواحل ذلك البحر إلا رعاياه.
فلما جهّز المركبين، سافرا حتى قربا من بلادنا، فخرج عليهما بعض قُطّاع الطُّرق من تلك الأرض، وفيهم عساكر من عند صاحب قيصرية، فأخذوا جميع ما في المركبين من التحف والأموال والذخائر والثلاث خرزات، وقتلوا الرجال.
فبلغ ذلك ملكَنا، فأرسل إليهم عسكرًا فهزموه، فأرسل إليهم عسكرًا أقوى من الأول فهزموه أيضًا. فعند ذلك اغتاظ الملك، وأقسم أنه لا يخرج إليهم إلا بنفسه في جميع عسكره، وأنه لا يرجع عنهم حتى يخرّب قيصرية، ويترك أرضها وجميع البلاد التي يحكم عليها ملكها خرابًا.
والمُراد من صاحب القوة والسلطان الملك عمر النعمان أن يمدّنا بعسكرٍ من عنده حتى يكون له الفخر في ذلك النصر. وقد أرسل إليك ملكُنا معنا شيئًا من أنواع الهدايا، ويرجو من إنعامك قبولها، والتفضّل عليه بالإسعاف. ثم إن الرسل قبّلوا الأرض بين يدي الملك عمر النعمان وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.



