قصص

ضياء المكان والوقّاد: حكاية الوفاء والرحلة إلى دمشق الشام.. الليلة ٥٤

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوقّاد قال: «اللهم إني أسألك بسرك المكنون أن تجعل سلامة هذا الصبي على يدي». وما زال الوقّاد يتعهده ثلاثة أيام وهو يسقيه السكر وماء الخلاف وماء الورد، ويتعطف عليه ويتلطف به، حتى عادت الصحة إلى جسمه، وفتح عينيه، فاتفق أن الوقّاد دخل عليه فرآه جالسًا وعليه آثار الشَّظف، فقال له: «ما حالك يا ولدي في هذا الوقت؟»

فقال ضوء المكان: «بخير وعافية». فحمد الوقّاد ربَّه وشكره، ثم نهض إلى السوق، واشترى له عشر دجاجات، وأتى زوجته وقال لها:
«اذبحي له في كل يوم اثنتين: واحدة في أول النهار، وواحدة في آخره».
فقامت وذبحت له دجاجة وسلقتها، وأتت بها إليه، وأطعمته إياها، وأسقته مرقتها. فلما فرغ من الأكل قدمت له ماءً مسخنًا، فغسل يديه، واتكأ على الوسادة، وغطته بملاءة، فنام إلى العصر.

ثم قامت وسلقت دجاجة أخرى، وأتته بها وفسختها، وقالت له: «كُلْ يا ولدي». فبينما هو يأكل، وإذا بزوجها قد دخل فوجدها تطعمه، فجلس عند رأسه، وقال له:
«ما حالك يا ولدي في هذا الوقت؟»
فقال: «الحمد لله على العافية، جزاك الله عني خيرًا».
ففرح الوقّاد بذلك، ثم إنه خرج وأتى بشراب البنفسج وماء الورد وسقاه.

وكان ذلك الوقّاد يعمل في الحمّام كل يوم بخمسة دراهم، فيشتري له في كل يوم بدرهم سكرًا وماء ورد وشراب بنفسج، ويشتري له بدرهم فراخًا، وما زال يلاطفه حتى مضى عليه شهر من الزمان، حتى زالت عنه آثار المرض، وتوجهت إليه العافية.
ففرح الوقّاد هو وزوجته بعافية ضوء المكان، وقال له الوقّاد:
«يا ولدي، هل لك أن تدخل معي الحمّام؟»
قال: «نعم».

فمضى إلى السوق، وأتى له بمكّاري أركبه حمارًا، وجعل يسنده حتى وصل إلى الحمّام، ثم دخل معه، وأجلسه في داخله، ومضى إلى السوق واشترى له سِدرًا ودقاقًا، وقال لضوء المكان:
«يا سيدي، باسم الله، أغسل لك جسدك».

وأخذ الوقّاد يحكّ لضوء المكان رجليه، وشرع يغسل له جسده بالسدر والدقاق. وإذا ببلّان قد أرسله معلم الحمّام إلى ضوء المكان، فوجد الوقّاد يحك رجليه، فتقدم إليه البلّان وقال له:
«هذا نقص في حق المعلم».
فقال الوقّاد: «والله إن المعلم غمرنا بإحسانه».

فشرع البلّان يحلق رأس ضوء المكان، ثم اغتسل هو والوقّاد، وبعد ذلك رجع به الوقّاد إلى منزله، وألبسه قميصًا رفيعًا، وثوبًا من ثيابه، وعمامة لطيفة، وأعطاه حزامًا. وكانت زوجة الوقّاد قد ذبحت دجاجتين وطبختهما، فلما طلع ضوء المكان وجلس على الفراش، قام الوقّاد وأذاب له السكر في ماء الورد وسقاه، ثم قدم له السفرة، وصار الوقّاد يفسخ له من ذلك الدجاج ويطعمه ويسقيه من المرق حتى اكتفى، وغسل يديه، وحمد الله تعالى على العافية، ثم قال للوقّاد:
«أنت الذي مَنَّ الله عليَّ بك، وجعل سلامتي على يديك».

فقال الوقّاد: «دع عنك هذا الكلام، وقل لنا ما سبب مجيئك إلى هذه المدينة؟ ومن أين أنت؟ فإني أرى على وجهك آثار النعمة».
فقال له ضوء المكان: «قل لي أنت أولاً كيف وقعتَ بي حتى أخبرك بحديثي؟»
فقال الوقّاد: «أما أنا فإني وجدتك مرميًّا على القمامة في المستوقد حين لاح الفجر، لما توجهت إلى أشغالي، ولم أعرف من رماك، فأخذتك عندي، وهذه حكايتي».

فقال ضوء المكان: «سبحان من يحيي العظام وهي رميم، إنك يا أخي ما فعلت الجميل إلا مع أهله، وسوف تجني ثمرة ذلك».
ثم قال للوقّاد: «وأنا الآن في أي البلاد؟»
فقال له الوقّاد: «أنت في مدينة القدس».

فعند ذلك تذكر ضوء المكان غربته، وفراق أخته، فبكى، حيث باح بسرّه إلى الوقّاد، وحكى له حكايته، ثم أنشد هذه الأبيات:

لقد حملوني في الهوى فوق طاقتي
ومن أجلهم قامت علي قيامتي
ألا فارفقوا يا هاجرين بمهجتي
فقد رقّ لي من بعدكم كلُّ شامتِ
ولا تمنعوا أن تسمحوا لي بنظرةٍ
تُخففُ أحوالي وفَرطَ صبابتي
سألتُ فؤادي الصبر عنكم فقال لي
إليكَ فإن الصبرَ من غير عادتي

ثم زاد في بكائه، فقال له الوقّاد:
«لا تبكِ، واحمد الله على السلامة والعافية».
فقال ضوء المكان: «كم بيننا وبين دمشق؟»
فقال: «ستة أيام».
فقال ضوء المكان: «هل لك أن ترسلني إليها؟»
فقال له الوقّاد: «يا سيدي، كيف أدعك تروح وحدك وأنت شاب صغير؟ فإن شئتَ السفر إلى دمشق فأنا الذي أروح معك، وإن أطاعتني زوجتي وسافرت معي أقمتُ هناك، فإنه لا يهون عليَّ فراقك».
ثم قال الوقّاد لزوجته: «هل لكِ أن تسافري معي إلى دمشق؟»

الشام، أو تكوني مقيمةً هنا حتى أوصل سيدي هذا إلى دمشق الشام، وأعود إليكِ؟ فإنه يطلب السفر إليها، فإني والله لا يهون عليّ فراقه، وأخاف عليه من قطاع الطريق.
فقالت له زوجته: أسافر معكما.
فقال الوقّاد: الحمد لله على الموافقة.
ثم إن الوقّاد قام وباع أمتعته وأمتعة زوجته.
وأدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى