كتب

“طرقات بمزاج سيئ”.. رحلة مصطفى النفيسي في دروب النفس والاغتراب الإنساني

 

مقدمة

رواية طرقات بمزاج سيئ هي عملٌ روائيٌ صدر للكاتب المغربي مصطفى النفيسي عام 2023 عن دار الآن ناشرون وموزعون. تُعد هذه الرواية خطوة جديدة في مسيرة الكاتب، الذي اشتهر سابقًا بمجموعة من القصص القصيرة، وعلى رأسها تطريزات على جسد غيمة. الرواية تقع في حوالي 192 صفحة أو نحوها حسب الطبعة الورقية، أو 246 صفحة حسب عرض دار جرير.

يُصنّف الكتاب ضمن الكتب العامة، وقد تم ترشيحه ضمن القائمة الطويلة لجائزة غسان كنفاني للرواية العربية لعام 2023.

السياق الأدبي والفكري

الكاتب وموقعه الأدبي

مصطفى النفيسي هو أستاذ للتعليم الثانوي التأهيلي في المغرب، حاصل على شهادة في الفلسفة، وله إسهامات أدبية في القصة القصيرة. تجربته القصصية تُظهر قدرة على الغوص في النفس الإنسانية، وتشريح المواقف الصغيرة التي تكشف عن تناقضات داخلية في الشخصية. طرقات بمزاج سيئ تمثل انطلاقًا من هذا الخلفية نحو تجربة روائية أكثر اتساعًا من حيث البناء النفسي والتعبير الفلسفي.

العنوان والمفاهيم المفتاحية

العنوان طرقات بمزاج سيئ يعكس من اللحظة الأولى توترًا أو تنائيًا يجمع بين الطريق كمجاز للفعل الحياتي ومساراته، والمزاج كحالة نفسية متغيّرة، وكلمة “سيئ” التي تضيف حمولة سلبية تفصح عن أن هذه الطرقات ليست مجرد مسارات عادية بل مفعمة بصراع، اضطراب، أو انهيار داخلي.

الرواية تتناول مفاهيم مثل الهوية، اللاانتماء، القناع، الوهم، الذاتيّة مقابل الاجتماعيّة، كذلك مسألة الصراع الطبقي أو الفوارق الطبقية بين الشخصيات رغم أن الرواية ليس فيها أسماء واضحة للشخصيات (الشخصيات تُذكر بوظيفتها أو موقعها الاجتماعي، مثل “حارس المرمى”، “زوجة حارس المرمى”، “الشرطي”، الأم، الجد …)

السرد والبناء الروائي

الأسلوب واللغة

الرواية تتبنّى أسلوبًا سرديًا يميل إلى التيار النفسي أو التيار الوعي، أي السرد الذي يغوص في تداخل الزمان، الذاكرة، النفس. تظهر اللغة كثيفة، استعارية، تستخدم الرموز والتلميحات أكثر من الوصف الواقعي المباشر. هناك تجاور بين التأملات الفلسفية والحوارات الباطنيّة الداخلية، التي تُظهر الصراع الداخلي للشخصيات بين ما هي عليه وما تريد أن تكونه.

الجمل التي تُفتتح بها الرواية أو التي تلوّح لها تشير إلى وعورة الصور الداخلية، إلى أن النفس هي أيضًا طريق طويل فيه الشقوق، والمفترقات، وكل مفترق قد يحمل خيارًا مؤلمًا أو مُذلًا.

الشخصيات والمكان

كما ذكرتُ، الشخصيات غالبًا بلا أسماء صريحة، يتم الإشارة إليها بالوظيفة أو الحالة الاجتماعية. هذا الأسلوب يضفي بعدًا رمزيًا: الشخصيات ليست مُفْردات مُميزة بقدر ما هي تمثيل لحالات إنسانية عامة، أو نماذج لوجدان متشابك.

المكان ليس مهمًا بالمعنى الجغرافي الدقيق بقدر ما هو حالة نفسية، فضاء داخليًا يموج بالصراع والرغبة في التحرر من الأوهام والستائر الاجتماعية. كذلك الزمن يتلوى: الماضي حاضر في الذكريات، والمستقبل غير مؤكد.

الموضوعات والمضامين

من خلال القراءة النقدية، يمكن رصد عدد من الموضوعات المحورية في الرواية:

  1. الصراع الطبقي والاختلاف الاجتماعي
    حارس المرمى وزوجته مثلاً، هما من طبقات مختلفة، ويبدو أن هذا الاختلاف الطبقي يُشكّل جرحًا عميقًا في العلاقة بينهما. الشخصية التي تنتمي إلى الهامش الاجتماعي تحسّ بثقّلة المركز الذي هي فيه زوجته، وبأن الفوارق الاجتماعية تُحدّد الكثير من الخيارات والمسارات، حتى لو بدا أن الحب أو العلاقة تحاول تجاوزها.
  2. الهوية واللاّهوية، الانتماء والاغتراب
    الشخصيات غالبًا ما تكون مُنفصلة عن ذاتها، تبحث عن مسار ترضى فيه عن نفسها، لكنها تجد نفسها محاصرة بالأقنعة التي تفرضها عليها الظرفية الاجتماعية أو الذاتية. القناع ليس مجرّد تمويه بل ضرورة للبقاء أو لتجنب الحزن أو المواجهة.
  3. الوهم والأقنعة والتمثيل الاجتماعي
    الأقنعة في الرواية تُستخدم كرمز للتمثيل الاجتماعي: ما نُظهره للآخرين ليس بالضرورة ما نحن عليه، وقد نصنع وجوهًا جديدة يوميًا لنخفي المكر أو الخوف أو الضعف. الوهم جزء من وجودنا، جزء من البُنية الاجتماعية التي لا يسمح فيها بالكشف الكامل.
  4. الضياع والمآزق النفسية
    المزاج السيئ الذي يُشير إليه العنوان ليس مجرد حالة عابرة بل هو مزاج متأصل في النفس، مرتبط بالماضي، بالخيبة، بالتمايز الطبقي، بالندم، وأحيانًا بالرغبة في الانقلاب على الذات. الضياع هو ضياع الذات، أو ضياع القدرة على تحديد أي طريق هو “الصحيح”.
  5. التاريخ الشخصي والجماعي
    هناك إحساس بالانكسار، وربما تاريخ من الهزائم لا الانتصارات. الرواية تعكس الإنسان المعاصر الذي يعيش ضمن باقة من الصراعات: بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو واقع، بين ما هو محصور في الذات وما هو مظالم أو قيود من البيئة أو المجتمع.

تقييم ونقد

القوة

  • الأسلوب الشعري والتأملي: النفيسي ينجح في أن يصوغ اللغة بحيث تصبح جزءًا من تجربة الرواية، ليست مجرد ناقل للأحداث وإنما مساحة لتأمل النفس والمكان والمعاناة.
  • الرمزية والتجريد: غياب الأسماء والتحديدات الكاملة يجعل القارئ يعمّق تأمله الخاص، ويجعل الشخصيات تمثل حالات إنسانية عامة، وهو ما يمنح الرواية عمقًا فلسفيًا.
  • الموضوعات المهمة: الاشتغال على الهوية، الطبقية، الضياع، القناع، التمايز الاجتماعي كلها موضوعات حضارية معاصرة، تهم القارئ العربي اليوم، وتفتح آفاقًا للتفكير والنقاش.
  • التجديد في التجربة السردية: هو تجربة روائية بعد مكتبة قصصية، تحمل في طياتها عناصر جديدة في البناء، في التجربة النفسية، في تجسيد الصراع الداخلي، وهو ما يعكس نضجًا في الممارسة الأدبية.

التحديات والانتقادات المحتملة

  • الإبهام والغموض: بعض القرّاء قد يجدون أن التجريد المفرط يجعل من الصعب تتبّع الشخصيات أو الأحداث، أو تحديد الزمان والمكان، ما قد يُضعف الارتباط العاطفي بالقصّة.
  • تكدّس الأسئلة دون إجابات واضحة: الرواية تطرح كثيرًا من الصراعات النفسية والاجتماعية لكنها لا تقدّم حلولًا أو نهايات حاسمة، ما قد يترك القارئ في شعور من الشك أو النقص.
  • الإيقاع السردي: الدخول إلى التيار النفسي والتأملي عادة ما يُبطئ الوتيرة السردية، ويجعل أجزاءً من الرواية تُركّزّ على التأمل الداخلي أكثر من الحدث الخارجي، وهو ما يفضّله بعض القرّاء على غيرهم.
  • التركيز على الداخليّات على حساب التماسك الزمني أو السردي: بعض المراجعات تشير إلى أن بناء الرواية قد يكون متقطّعًا، أقسامًا طويلة من التأمل أو الأجواء، مع فترات أقل وضوحًا للمسار القصصي المُتقن.

الأبعاد الفلسفية والنفسية

الرواية تلامس أفكارًا فلسفية واضحة، منها:

  • الوعي بالذاتيّة والفرق بين الذات والمظهر، وبين ما يُختار أن يُعرض وبين ما يُخفي.
  • العبء الوجودي: ما معنى أن تكون موجودًا في عالم تكثر فيه الأقنعة، والمظاهر، والتناقضات؟ كيف يُصنع المعنى؟
  • الهروب والتخفي: من اللعبة الاجتماعية، من الضغوط الطبقية، من الذات وربما من التاريخ، سواء الشخصي أو الجماعي.
  • المزاج كمكوّن من التجربة الإنسانية: المزاج ليس مجرد شعور مؤقت، بل هو عدسة يرى بها الفرد العالم، وهو ما يلوّنه ويشكّله.

مكان الرواية ضمن الأدب المعاصر

  • طرقات بمزاج سيئة تشكّل جزءًا من الاتجاه الأدبي الذي يميل نحو السرد النفسي في الأدب العربي، والذي يُعنى بالبُعد الداخلي للشخصية، بالذكريات والصراعات والتوترات الوجودية.
  • كما أنها تُساهم في الحوار الأدبي مع القضايا الاجتماعية المعاصرة، خصوصًا الفوارق الطبقية، ضعف الهوية، التمايز الاجتماعي، وصراع الفرد مع التقاليد والظروف.
  • ترشيح الرواية لجائزة عربية مرموقة (غسان كنفاني) يؤكد أن هناك تقديرًا لهذا النوع من الأدب الذي لا يكتفي بالسرد فقط بل يحاول أن يكون نقدًا ذاتيًا واجتماعيًا.

خلاصة

رواية طرقات بمزاج سيئ لمصطفى النفيسي هي محاولة جريئة لفهم الذات الإنسانية المعاصرة عبر مسارات متشبّكة من الصراع الداخلي، الطبقية، الهوية، القناع، والضياع. الرواية لا تعطي وصفًا بسيطًا للعالم بل تحاول أن تفكّك القناعات والأقنعة، أن تكشف عن المفارقات التي نعيشها دون أن ندركها، أو نخشى أن نعترف بها.

إنها ليست قراءة سهلة، لأنها لا تقدّم حلولًا جاهزة، وتطلب من القارئ أن يكون مشاركًا في التأويل، أن يتحمل الغموض، وأن يسير معه في ذلك الطريق – الطريق الذي ربما لا ينتهي بانتصار، لكن فيه مساحة للتأمل، وربما للتحرّر النفسي.

 

لمعرفة المزيد: “طرقات بمزاج سيئ”.. رحلة مصطفى النفيسي في دروب النفس والاغتراب الإنساني

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى