عالم على ارتفاع 5000 متر: كيف اكتشف فيكتور هيس سر الأشعة القادمة من الفضاء؟

البداية: إشعال الفضول
في زقاق ضيق من شوارع ستيريا النمساوية، وُلِد حلم صغير سيغيّر وجه العلم للأبد… هكذا بدأت رحلة فيكتور فرانس ف. هيس (Victor F. Hess)، الرجل الذي كشف عن أسرار إشعاعات كونية غير مرئية، ليحصد جائزة نوبل في الفيزياء عام 1936. ترتسم أمامنا لحظة صعوده بالبندقية الهوائية فوق الجبال في عام 1912، ليرصد ارتفاعًا غير متوقع للإشعاعات الكونية، ويُعلن بداية عصر جديد في الفيزياء—عصر إشعاع النجوم. وفي هذا المقال، نعيش معًا قصة حياته من طفولته المتواضعة في قلعة والدته إلى وقوفه على منصة نوبل، بأسلوب قصصي سلس ودقيق.
النشأة والطفولة: ملامح التكوين
وُلد فيكتور ف. هيس في 24 يونيو 1883، في قلعة “فالدشتاين” (Waldstein Castle) قرب بلدة بيغاو في إقليم ستيريا النمساوي. كان والده يعمل حارسًا للغابات، بينما تنتمي والدته إلى عائلة نبيلة. أمضى طفولته بين الجبال والغابات، وهناك تشكّلت أولى ملامح فضوله العلمي. قضى ساعات طويلة في مراقبة الطبيعة، وتعلم باكرًا الانضباط والدقة، وهما عنصران أساسيان في مسيرته لاحقًا.
التحق بمدرسة ثانوية في مدينة غراتس، وهناك أظهر نبوغًا في الرياضيات والعلوم الطبيعية، واهتمامًا خاصًا بالفيزياء والتجارب. كانت الإمبراطورية النمساوية-المجرية في تلك الفترة تعيش تحولًا ثقافيًا وعلميًا، مما فتح له آفاقًا واسعة نحو الدراسة العليا.
التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة
في عام 1901، التحق بجامعة غراتس لدراسة الفيزياء والرياضيات، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة فيينا عام 1906، تحت إشراف الفيزيائي الشهير ستيفان ماير. كانت أطروحته البحثية تدور حول تأين الهواء والتوصيلية الكهربائية، وهي المواضيع التي سيبني عليها لاحقًا اكتشافه الأهم.
ما بين 1906 و1910، عمل مساعدًا في المعهد الفيزيائي بجامعة فيينا، وهناك تعمق في دراسة إشعاعات الراديوم، ليكتسب خبرة نادرة في وقت كانت فيه الفيزياء النووية لا تزال في بداياتها.
الانطلاقة المهنية: أولى خطوات التأثير
بين عامي 1910 و1920، عمل في معهد الراديوم في فيينا، حيث بدأ سلسلة من التجارب التي ستقوده لاكتشاف الإشعاع الكوني. ثم تولى مناصب أكاديمية في عدة جامعات نمساوية:
السنة | المحطة |
---|---|
1910–1920 | باحث في معهد الراديوم بفيينا |
1921–1923 | مدير مختبرات في شركة U.S. Radium في نيوجيرسي |
1923–1931 | أستاذ في جامعة غراتس |
1931–1937 | أستاذ ومدير معهد فيزياء الإشعاع في جامعة إنسبروك |
وفي عام 1938، وبعد ضم النمسا إلى ألمانيا النازية، هاجر هيس إلى الولايات المتحدة برفقة زوجته اليهودية، ليعمل أستاذًا في جامعة فوردهم في نيويورك حتى تقاعده في عام 1958.
الإنجازات الثورية: التغيير الحقيقي
اكتشاف الإشعاع الكوني (1912)
في وقت كان يُعتقد أن التأين في الغلاف الجوي ناتج فقط عن إشعاعات أرضية، صعد هيس ببالون هوائي في 7 رحلات خطيرة بين عامي 1911 و1912 لقياس مستويات الإشعاع على ارتفاعات مختلفة. وكانت المفاجأة أن التأين يزداد مع الارتفاع بعد نقطة معينة، ما يدل على وجود مصدر إشعاعي قادم من الفضاء.
لقد أظهرتُ أن التأين عند ارتفاع 5 كيلومترات كانت مرتين وأكثر من سطح الأرض.
— فيكتور هيس، من محاضرته عند استلام نوبل
هذا الاكتشاف أسس علم الإشعاع الكوني، ومهّد لاحقًا لاكتشاف جسيمات مثل البوزيترون والميوون، وفتح آفاقًا واسعة لفهم الكون.
لحظة نوبل: القمة المنتظرة
في 10 ديسمبر 1936، حصل فيكتور ف. هيس على جائزة نوبل في الفيزياء، مشاركةً مع الأمريكي كارل ديفيد أندرسون (مكتشف البوزيترون)، تكريمًا لـ”اكتشافاتهما المتعلقة بالإشعاع الكوني”.
في بيان لجنة نوبل، جاء:
“نمنح الجائزة لهيس على اكتشافه الإشعاع الكوني من خلال قياسات دقيقة للتأين على ارتفاعات مختلفة، أثبتت أن الإشعاع يأتي من خارج الأرض.”
كان الاكتشاف في وقت كانت فيه فيزياء الجسيمات بحاجة إلى تفسير للظواهر غير المعروفة، لذلك اعتُبر إنجازه ثورة علمية بكل المقاييس.
التحديات والإنسان وراء العبقرية
لم تكن مسيرة هيس سهلة؛ فقد واجه خطر الموت خلال رحلات البالون، وعانى من أمراض في جهازه التنفسي، وأُزيلت إحدى حنجرته لاحقًا بسبب مشكلات صحية. كما عانى من ضغوط سياسية بسبب النازية، مما اضطره للفرار إلى أمريكا.
لكن رغم ذلك، استمر في أبحاثه، وكتب أوراقًا علمية هامة، ودرّس أجيالًا من الطلبة. كان متواضعًا، مؤمنًا بقدرة الإنسان على الفهم العلمي والروحي في آنٍ واحد.
الجوائز والإرث: ما تركه للعالم
الجوائز:
- جائزة ليبن (1919)
- وسام أبّي من معهد كارل زايس (1932)
- جائزة نوبل في الفيزياء (1936)
- وسام النمسا للعلوم والفنون (1959)
إرثه العلمي:
- نشر أكثر من 60 بحثًا علميًا
- ساهم في ولادة علم الفيزياء الكونية
- أطلقت ناسا اسمه على فوهة قمرية: “Hess Crater”
- ما زالت محاضراته تُدرّس في جامعات الفيزياء حول العالم
الجانب الإنساني: روح خلف الإنجاز
كان هيس متدينًا، ولم يرَ تعارضًا بين الدين والعلم. كتب مقالات تدافع عن أخلاقيات البحث العلمي، ورفض تسليح الاكتشافات النووية. شارك في جهود كشف التلوث الإشعاعي بعد قصف هيروشيما، وطور تقنيات لحماية العمال من إشعاعات الراديوم.
العلم بدون إنسانية لا يضيء سوى طريق إلى الدمار.
ما بعد نوبل: الاستمرار أو الخلود
من عام 1938 وحتى تقاعده عام 1958، علّم هيس في جامعة فوردهم بنيويورك. وبعد تقاعده، ظل يحضر المؤتمرات العلمية حتى وافته المنية في 17 ديسمبر 1964 عن عمر ناهز 81 عامًا.
في ذكراه، أطلقت عليه جامعة غراتس اسم “رائد الفيزياء الكونية”، وأقيمت له تماثيل ومراكز بحثية باسمه في النمسا.
الخاتمة: أثر خالد
قصة فيكتور ف. هيس تجسد رحلة الإنسان الباحث عن الحقيقة، المصرّ على النظر إلى السماء بفكر لا يتوقف. من شاب نمساوي مغمور إلى أحد أعظم علماء القرن العشرين، ظل يحمل في قلبه سؤالًا بسيطًا: من أين يأتي هذا الضوء الذي لا نراه؟
لقد علّمنا هيس أن المغامرة في سبيل المعرفة تستحق كل شيء، وأن أسرار الكون لا تُكشف إلا لمن يتسلّح بالشجاعة والعلم والتواضع.