عالم في زمن الحرب: السيرة الذاتية لإنريكو فيرمي

المقدمة: رجلٌ واحد، وسؤالٌ غيّر وجه العالم
في إحدى ليالي شتاء عام 1938، كان العالم يغلي على شفا حرب جديدة. وفي الوقت نفسه، كان هناك رجلٌ يُجري في مختبره تجربة ستُصبح لاحقًا من أهم لحظات التاريخ العلمي الحديث. ذلك الرجل هو إنريكو فيرمي، العقل الذي فجّر حدود الفيزياء، وأعاد تشكيل علاقتنا مع الطاقة، بل ومع الحياة نفسها. سيرة فيرمي ليست مجرد قصة عالِم نال جائزة نوبل، بل قصة إنسان جمع بين العبقرية العلمية والشجاعة الأخلاقية، ورأى بعينيه كيف يمكن للعلم أن يبني حضارة أو أن يهدمها.
النشأة والتكوين: الطفل الذي آمن بالعدد والضوء
وُلد إنريكو فيرمي في 29 سبتمبر عام 1901 في روما، إيطاليا، لأسرة متوسطة الحال. كان والده “ألبرتو فيرمي” موظفًا في السكك الحديدية، أما والدته “إيدا دي غاتي” فكانت معلمة. منذ طفولته، أبدى إنريكو شغفًا غير عادي بالعلوم، حيث قضى ساعات طويلة في قراءة الكتب التقنية والرياضية، بينما كان أقرانه يلهون في الشوارع.
وفي حادثة فارقة، توفي شقيقه الأكبر فجأة، وهو ما شكّل صدمة عنيفة لإنريكو، لكنه لجأ إلى الكتب والأرقام ليخفف من حزنه، وبدأ في بناء أدواته الفيزيائية الأولى من الخردة والأسلاك، في عمر لا يتجاوز الثالثة عشرة.
التعليم وبداية التكوين المهني: عقل إيطالي في محراب النخبة
التحق بجامعة بيزا عام 1918، وحصل على منحة دراسية من “المدرسة العليا العادية”، حيث أذهل أساتذته بسرعة استيعابه للرياضيات والفيزياء النظرية. نال درجة الدكتوراه في الفيزياء في سن مبكرة، وتخصص في مجالات ميكانيكا الكم والنظرية النسبية، التي كانت آنذاك في بداياتها.
بدأ ينشر أبحاثًا علمية في عمر العشرين، وسرعان ما لمع اسمه بين أوساط الفيزيائيين الأوروبيين.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى: عالم في وجه الفاشية
في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، أصبح فيرمي أستاذًا في جامعة روما، وهناك كوّن “مدرسة روما للفيزياء”، وهي مجموعة من أبرز الفيزيائيين الشباب الذين أسهموا في تقدم الفيزياء النووية.
لكن مع صعود النظام الفاشي بقيادة موسوليني، واجه فيرمي تحديًا كبيرًا، إذ أن زوجته “لورا كابون” كانت يهودية. وعندما صدرت قوانين عنصرية ضد اليهود في عام 1938، شعر فيرمي بالخطر.
” لم أعد أؤمن بإيطاليا الجديدة… الوطن الذي يمنع عائلتي من العيش لا يستحق ولائي.”
عقب حصوله على جائزة نوبل في الفيزياء في نفس العام، غادر فيرمي إيطاليا مباشرة إلى الولايات المتحدة، ولم يعد إليها أبدًا.
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي: تفكيك الذرة… وبناء المستقبل
نال فيرمي جائزة نوبل عام 1938 عن “إسهاماته في الفيزياء النووية، خاصة في اكتشاف عناصر جديدة من خلال قصف النيوترونات، وشرح التفاعلات النووية”.
لكنه لم يتوقف هناك. ففي الولايات المتحدة، عمل في جامعة كولومبيا ثم في جامعة شيكاغو، حيث قاد أول تجربة في العالم لـ التفاعل النووي المتسلسل المضبوط سنة 1942، تحت مدرج رياضي في شيكاغو، وهو ما عُرف لاحقًا بـ مشروع شيكاغو بايل-1.
فيرمي أثناء التجربة:
“لو نجح هذا، فنحن نغير التاريخ. وإن فشل، لن يعرف أحد.”
كانت هذه التجربة اللبنة الأساسية في تطوير القنبلة الذرية، وسرعان ما أصبح فيرمي جزءًا من مشروع مانهاتن السري، الذي صنع أولى القنابل النووية.
ورغم ذلك، ظل فيرمي متمزقًا بين فخر الإنجاز العلمي، وقلق النتائج الكارثية.
التكريمات والجوائز الكبرى: نوبل وما بعده
بالإضافة إلى جائزة نوبل، حصل فيرمي على الميدالية الرئاسية للحرية (بعد وفاته)، وسُمي العديد من المراكز البحثية العلمية والنظريات باسمه، مثل:
- مختبر فيرمي الوطني (Fermilab) في الولايات المتحدة.
- عنصر “فيرميوم” (Fermium) في الجدول الدوري، تكريمًا له.
- جائزة إنريكو فيرمي التي تمنحها وزارة الطاقة الأمريكية لأبرز العلماء.
التحديات والمواقف الإنسانية: العالم والضمير
رغم دوره في تطوير القنبلة الذرية، كان فيرمي من أوائل العلماء الذين طالبوا بالرقابة على استخدام الطاقة النووية. وبعد قصف هيروشيما وناغازاكي، شعر بخيبة أمل كبيرة، ودعا إلى استخدام الطاقة النووية في مجالات السلام والطب.
رفض العمل لاحقًا في أي مشروع عسكري، وكرّس جهوده للأبحاث السلمية والتعليم.
الإرث والتأثير المستمر: الضوء الذي لا ينطفئ
تُعد إنجازات فيرمي حجر الزاوية في فهمنا المعاصر للفيزياء النووية، وقد أثّر في أجيال من العلماء الذين تابعوا مسيرته.
لا تزال نظرياته حول النيوترونات، والإحصاء الكمومي (إحصاء فيرمي-ديراك)، وتجاربه حول الانشطار النووي تُدرَّس حتى اليوم.
قال عنه ريتشارد فاينمان:
“كان فيرمي نقيًّا كالرياضيات، وواسعًا كالعالم، وواقعيًا كالمهندس.”
الجانب الإنساني والشخصي: الأب الصامت والعالم المتواضع
بعيدًا عن المختبرات، كان فيرمي إنسانًا متواضعًا، يهوى المشي في الطبيعة ولعب التنس. كان أبًا لاثنين، محبًا لعائلته، ويمضي أوقات فراغه في تدريس أبنائه الرياضيات بطريقة مرحة.
لم يكن يحب الشهرة، بل كان يصف نفسه بأنه “عامل في مصنع الحقيقة”.
الخاتمة: حين تصبح المعرفة مسؤولية
توفي إنريكو فيرمي في 28 نوفمبر 1954 عن عمر ناهز 53 عامًا، بعد صراع قصير مع سرطان المعدة. ورغم حياته القصيرة، فإن إرثه لا يزال يسطع في كل ذرة انشطارية، وكل مفاعل نووي، وكل معادلة فيزياء تصف الكون.
من سيرة فيرمي نتعلم أن العلم ليس فقط اكتشافًا، بل مسؤولية. وأن الإنسان، مهما بلغ من عبقرية، يظل أمام أخلاقياته، مرآة لضميره.