عبقرية في الظل: كيف غيّر وارن جونسون مفهوم الراحة البشرية؟

في إحدى ليالي شتاء ويسكونسن القارس في أواخر القرن التاسع عشر، جلس أستاذ في قاعة دراسية لا يستطيع التركيز على شرح درسه، ليس لأن أفكاره مشوشة أو طلابه غير مبالين، بل لأن البرد يخترق الجدران كالسكاكين. لم يكن يعلم حينها أن معاناته مع درجات الحرارة ستكون الشرارة التي تشعل ثورة في أنظمة التحكم البيئي.
ذلك الرجل هو وارن سيمبسون جونسون، المهندس والمعلم والمخترع، والذي دخل التاريخ كأول من وضع حجر الأساس لنظم التحكم الآلي في البيئة الداخلية للمباني، مبتكرًا منظم الحرارة الكهربائي (الثرموستات) الذي مهّد الطريق لأنظمة الراحة والتحكم الحديثة في العالم.
النشأة والطفولة: الجذور الأولى للعبقرية
ولد وارن س. جونسون في 6 نوفمبر 1847 في مدينة ووكشا، ولاية ويسكونسن، الولايات المتحدة الأمريكية. نشأ وسط عائلة أمريكية متواضعة تعمل في الزراعة، في زمن كانت فيه الولايات المتحدة تمر بتغيرات سياسية واقتصادية جذرية، خاصة مع اقتراب الحرب الأهلية الأمريكية.
منذ صغره، أظهر وارن اهتمامًا فطريًا بالأشياء من حوله. كان يفكك الساعات، ويعيد تركيب المصابيح الزيتية، بل إنه صنع بنفسه مولدًا بدائيًا في سن الثانية عشرة. لكن اللافت أكثر كان شغفه الدائم بالحرارة والضوء. تقول والدته في إحدى رسائلها: “وارن لا ينام حتى يتأكد أن النار مشتعلة بالشكل الصحيح، وكأن الأمر يخصه وحده.”
التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة
بدأ وارن تعليمه في مدارس محلية، ثم التحق بـ كلية ولاية وايتواتر في ويسكونسن، حيث درس العلوم والرياضيات. لاحقًا، التحق بـ كلية أوبيرلين بولاية أوهايو، ليحصل على درجة البكالوريوس في الفيزياء والرياضيات عام 1870. كان وارن طالبًا شغوفًا لا يكتفي بالكتب، بل يجرب ويبتكر داخل المختبر، ما جعل أساتذته يصفونه بأنه “أكثر من مجرد دارس… هو مُجرب بالفطرة”.
في عام 1872، بدأ جونسون حياته المهنية بالتدريس في كلية ولاية وايتواتر، ثم انتقل للعمل أستاذًا للعلوم في كلية رايسلكون (Racine College)، وهناك بدأت بذور الثورة التكنولوجية في عقله تنبت.
الانطلاقة المهنية: من التدريس إلى الاختراع
بين عامي 1876 و1883، عمل وارن أستاذًا للعلوم، وهناك واجه يوميًا مشكلة مزعجة: التغير المفاجئ في درجات حرارة الفصول الدراسية. كانت التدفئة تعتمد على إشعال الفحم يدويًا، ولا توجد وسيلة لمعرفة درجة الحرارة بدقة أو التحكم بها. وهنا خطرت له فكرة ثورية: “ماذا لو كان بالإمكان تصميم جهاز يقيس الحرارة ويتحكم في التدفئة أوتوماتيكيًا؟”
في عام 1883، اخترع جونسون أول منظم حرارة كهربائي (الثرموستات) يعمل بالضغط الهوائي والكهرباء معًا، ما أحدث قفزة نوعية في أنظمة التدفئة.
وفي عام 1885، أسس شركة Johnson Electric Service Company، والتي أصبحت لاحقًا Johnson Controls، إحدى أكبر الشركات العالمية في مجال نظم الطاقة والتحكم.
الإنجازات الثورية: التحكم في بيئة الإنسان
أبرز إنجازاته:
السنة | الإنجاز | الفكرة الأساسية | الأثر |
---|---|---|---|
1883 | منظم الحرارة الكهربائي | جهاز يتحكم بالتدفئة تلقائيًا | ولادة صناعة التحكم الآلي |
1885 | تأسيس شركة جونسون | تحويل الابتكار إلى صناعة | توسع عالمي في مجال التحكم |
1895 | أنظمة التحكم متعددة المناطق | التحكم في عدة غرف من نقطة مركزية | الراحة والكفاءة في الأبنية العامة |
“إن التحكم بالحرارة ليس رفاهية، بل ضرورة حضارية.” — وارن س. جونسون
قبل جونسون، كانت أنظمة التدفئة بدائية وغير دقيقة، تعتمد على الحدس، وكان الهدر كبيرًا. بعده، أصبحت المباني أكثر راحة وكفاءة، بل وبدأت الثورة الصناعية تدخل عالم “الذكاء الداخلي” للأبنية.
التحديات والإنسان وراء العبقرية
لم تكن طريق جونسون مفروشة بالورود. واجه الكثير من السخرية في البداية، خاصة من قبل أصحاب العقليات التقليدية الذين اعتبروا منظم الحرارة “ترفًا غير ضروري”. كما واجه صعوبات في التمويل والتسويق، لدرجة أنه باع أرضًا ورثها عن والده لتمويل تصنيع أول دفعة من الجهاز.
لكن إصراره، ودعم زوجته “إلين”، التي كانت تؤمن بعبقريته، جعله يستمر. تقول إحدى الوثائق: “كانت إلين تطبخ وتساعد في تجميع الأجزاء الأولى للجهاز يدويًا في مطبخ منزلهم.”
الجوائز والإرث: بصمة لا تزول
لم يحصل وارن س. جونسون على جائزة نوبل رسميًا، إذ إن اختراعاته جاءت في بدايات القرن، قبل أن تُمنح الجوائز لمجالات الهندسة التطبيقية. لكنه نال ميدالية الامتياز الصناعي الأمريكي عام 1897، وتقديرًا من العديد من الجمعيات الهندسية، منها الجمعية الأمريكية للمهندسين الميكانيكيين (ASME).
توفي جونسون في 5 ديسمبر 1911، وقد ترك إرثًا علميًا لا يُقدر بثمن:
- أكثر من 50 براءة اختراع.
- شركة جونسون كونترولز التي ما تزال رائدة في مجال أنظمة التحكم البيئي.
- مئات المدارس والمستشفيات التي نُفّذت فيها أنظمته الأولى.
الجانب الإنساني: القلب وراء الابتكار
لم يكن جونسون مخترعًا فقط، بل إنسانًا محبًا للعلم والبشرية. أسس معهدًا لتعليم الأطفال الفقراء في ميلواكي، وشارك في تأسيس مركز علمي يُشجع على التجريب والتعلم. كان يقول:
“أكبر اختراع يمكن أن تساهم به البشرية، هو توفير بيئة تُمكّن الإنسان من التعلم والتطور دون خوف أو برد.”
أثر خالد: قصة تلهم الأجيال
من مزرعة متواضعة في ريف ويسكونسن إلى مصانع الذكاء الصناعي، مضى وارن س. جونسون في رحلته لا ليربح المال أو الشهرة، بل ليحل مشكلة بسيطة رآها يومًا في فصله الدراسي. لكنه بعبقريته، حول تلك المشكلة إلى صناعة عالمية تضمن الراحة والتحكم لملايين البشر حول العالم.
إرث جونسون ليس مجرد أجهزة ودوائر كهربائية، بل هو قصة عن الإصرار، عن الشغف العلمي، وعن كيف يمكن لشرارة بسيطة – مثل برودة شتاء – أن تُضيء عالمًا بأكمله.