فريتز هابر: الكيميائي بين مجد العلم ومأساة الأخلاق

المقدمة: بين إنقاذ العالم وإشعال الحروب
عندما نتأمل مسيرة فريتز هابر، ندرك أننا أمام شخصية استثنائية تجمع بين التناقضات: فهو الرجل الذي أهدى البشرية طريقة لإنقاذ مليارات البشر من المجاعة عبر اختراعه عملية تثبيت النيتروجين، وهو نفسه الذي قاد جهود ألمانيا في تطوير الأسلحة الكيميائية خلال الحرب العالمية الأولى. إن سيرة فريتز هابر لا تُقرأ فقط كتاريخ عالم كيمياء، بل كمرآة تعكس صراع العلم مع الأخلاق، والوطنية مع الإنسانية، والمجد مع المأساة.
النشأة والتكوين
وُلد فريتز هابر في 9 ديسمبر 1868 بمدينة بريسلاو الألمانية (اليوم فروتسواف في بولندا). نشأ في كنف عائلة يهودية ثرية تعمل في تجارة الأصباغ والمواد الكيميائية. فقد أمه “باولا” في الأيام الأولى من حياته، وظل هذا الغياب المبكر يلقي بظلاله على شخصيته لاحقًا.
والده “سيغفريد” كان تاجرًا عمليًا، أراد أن يسلك ابنه طريق التجارة، لكن فريتز كان مولعًا بالعلم والتجريب. ورغم أصوله اليهودية، قرر في شبابه اعتناق المسيحية البروتستانتية، مدفوعًا برغبته في الاندماج بالمجتمع الألماني الذي كان ينظر إلى اليهود نظرة تمييزية.
كان هابر طفلاً فضوليًا يطرح الأسئلة بلا توقف. انجذابه للتجارب الكيميائية جعله يقضي ساعات طويلة في مختبرات صغيرة أقامها بنفسه في المنزل، ليتضح منذ وقت مبكر أنه يسير في طريق العلم.
التعليم وبداية التكوين المهني
درس هابر في مدرسة بريسلاو الثانوية، حيث لمع نجمه في الرياضيات والعلوم. وفي عام 1886 التحق بجامعة فريدريش في بريسلاو، ثم انتقل إلى جامعات هايدلبرغ وبرلين ليوسع معارفه.
في جامعة هايدلبرغ درس تحت إشراف العالِم الكبير روبرت بنزن، الذي ألهمه بأسلوبه العملي في التدريس. كما تأثر بأعمال الفيزيائي الشهير هيرمان فون هلمهولتز في برلين، ما عزّز لديه حب الكيمياء الفيزيائية.
عام 1891 حصل على الدكتوراه في الكيمياء العضوية. ورغم أن تخصصه الأساسي كان في مجال الصبغات والمواد الصناعية، إلا أن اهتمامه الحقيقي تركز لاحقًا على الديناميكا الكيميائية والتفاعلات الغازية.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
بدأ هابر مسيرته الأكاديمية أستاذًا مساعدًا في جامعة كارلسروه للتقنية عام 1894. في تلك المرحلة لم يكن اسمه معروفًا على نطاق واسع، كما أن بعض زملائه اعتبروا أبحاثه مغامرة غير مجدية.
لكن هابر امتلك إصرارًا لا يلين، وكان يؤمن بأن العلم يجب أن يرتبط مباشرة بخدمة المجتمع والصناعة. لذلك ركّز على واحدة من أعقد المشكلات التي حيّرت العلماء: كيفية تثبيت النيتروجين من الهواء، وهو عنصر ضروري لصناعة الأسمدة والمتفجرات على حد سواء.
الإنجاز الأبرز: عملية هابر-بوش
بحلول عام 1909، تمكن هابر من تحقيق إنجاز غير مسبوق: تحويل النيتروجين الجوي إلى أمونيا صناعية عبر تفاعل كيميائي يتم في ضغط عالٍ (200 ضغط جوي تقريبًا) ودرجة حرارة عالية (400 – 500 مئوية) باستخدام محفز معدني.
لكن تحويل هذا الاكتشاف من مختبر إلى صناعة واسعة لم يكن أمرًا سهلاً. هنا جاء دور المهندس الكيميائي كارل بوش، الذي طوّر التكنولوجيا اللازمة لتطبيق العملية على نطاق صناعي. وبفضل هذا التعاون، وُلدت عملية “هابر-بوش” التي غيّرت مسار العالم.
قبل وبعد اكتشاف هابر:
- قبل 1909: كان العالم مهددًا بالمجاعات بسبب محدودية إنتاج الأسمدة.
- بعد 1909: تضاعف الإنتاج الزراعي، وأصبح من الممكن إطعام مليارات البشر.
يقدّر الخبراء أن حوالي 40% من الغذاء المنتج حاليًا يعتمد على أسمدة نيتروجينية مصدرها عملية هابر-بوش. ولهذا وُصف هابر بأنه “الرجل الذي أطعم العالم”.
لكن لهذا الوجه المشرق ظل آخر قاتم: الأمونيا نفسها أصبحت المادة الأساسية لإنتاج المتفجرات، ما ساعد ألمانيا في استمرار الحرب العالمية الأولى.
جدول زمني لأبرز محطات حياته
السنة | الحدث |
---|---|
1868 | ولادته في بريسلاو بألمانيا. |
1891 | نال الدكتوراه في الكيمياء. |
1894 | بدأ التدريس في جامعة كارلسروه. |
1909 | اكتشف طريقة تثبيت النيتروجين. |
1911 | عُيّن مديرًا لمعهد القيصر فيلهلم للكيمياء. |
1915 | أشرف على أول استخدام للغازات السامة في الحرب. |
1918 | حصل على جائزة نوبل في الكيمياء. |
1933 | استقال من منصبه بعد صعود النازية. |
1934 | وفاته في بازل بسويسرا. |
التكريمات والجوائز الكبرى
نال فريتز هابر جائزة نوبل في الكيمياء عام 1918 عن إنجازه في تثبيت النيتروجين. ورغم الاعتراضات الأخلاقية بسبب مشاركته في الحرب الكيميائية، إلا أن لجنة نوبل بررت قرارها بأن اكتشافه أساسي لبقاء البشرية.
كما مُنح أوسمة ألمانية عديدة، واعتُبر في وطنه بطلًا قوميًا، إذ ساهم اكتشافه في تعزيز مكانة ألمانيا كقوة صناعية وزراعية كبرى.
التحديات والمواقف الإنسانية
حياة هابر لم تخلُ من مآسٍ إنسانية. أبرزها انتحار زوجته كلارا إيمرڤار عام 1915، احتجاجًا على مشاركته في تطوير الأسلحة الكيميائية. هذه الحادثة المؤلمة شكّلت نقطة تحول في حياته، وأظهرت التناقض بين التزامه الوطني ورفضها الأخلاقي.
كما أن هابر نفسه عاش صراعًا داخليًا: فهو رجل علم آمن بأن البحث يجب أن يخدم وطنه، لكنه واجه انتقادات عنيفة على المستوى الدولي بسبب دوره في إدخال الغازات السامة إلى الحروب.
وفي الثلاثينيات، تعرض للخذلان الأكبر عندما أجبره النظام النازي على الاستقالة من منصبه بسبب أصوله اليهودية، رغم أنه أفنى حياته في خدمة ألمانيا.
الإرث والتأثير المستمر
إرث هابر متعدد الأبعاد:
- في الزراعة: أسهم اختراعه في تفادي مجاعات كبرى، ولا تزال الأسمدة الناتجة عن طريقته تغذي الحقول في أنحاء العالم.
- في الصناعة: دعم بقوة الصناعة الكيميائية الألمانية، مما جعلها في طليعة العالم.
- في الحرب: ارتبط اسمه بالأسلحة الكيميائية، وهو ما جعل إرثه مثار جدل أخلاقي حتى اليوم.
الجانب الإنساني والشخصي
رغم مجده العلمي، كانت حياة هابر الشخصية مليئة بالتناقضات:
- تزوج مرتين، وفقد زوجته الأولى بسبب خلافات أخلاقية.
- عاش غربة الهوية: يهودي بالميلاد، بروتستانتي بالاختيار، وألماني بالانتماء، لكنه في النهاية مات منفيًا ومرفوضًا.
- في سنواته الأخيرة حاول الهجرة إلى فلسطين بدعوة من علماء يهود، لكنه لم يستقر هناك.
كتب في أحد خطاباته الأخيرة:
“لقد عشت حياتي كلها كألماني، لكنني أموت الآن كيهودي بلا وطن.”
الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
قصة حياة فريتز هابر تجسد الصراع الأزلي بين عبقرية العلم ومسؤولية الأخلاق. لقد أنقذ باكتشافه ملايين البشر من المجاعة، لكنه في الوقت ذاته كان شريكًا في مأساة الحرب الكيميائية.
الدروس التي نستخلصها من سيرته أن العلم لا يمكن أن يُفصل عن القيم الإنسانية. فالعالم قد يغيّر مصير البشرية، لكن استخدام اختراعاته هو الذي يحدد إن كان هذا التغيير خلاصًا أو دمارًا.
يبقى فريتز هابر شخصية ملهمة وجدلية في آن واحد، تذكرنا بأن التاريخ لا يكتب بلون أبيض أو أسود، بل بمزيج معقد من النور والظلال.