فريدريك باسي: رائد السلام الدولي والفكر الاقتصادي الإنساني

الميلاد والنشأة
وُلد فريدريك باسي (Frédéric Passy) في العاصمة الفرنسية باريس في 20 مايو عام 1822. نشأ في أسرة مثقفة تنتمي إلى الطبقة البورجوازية المتنورة، وكان والده موظفًا حكوميًا في السلك الإداري، وهو ما وفر له بيئة تعليمية وثقافية راقية أسهمت في تشكيل وعيه المبكر بقضايا العدالة والحرية والاقتصاد.
المسار الأكاديمي والمؤهلات العلمية
التحق باسي بجامعة السوربون، حيث درس القانون في البداية، لكنه سرعان ما انجذب إلى الاقتصاد السياسي، وهو الحقل الذي سيشكل لبّ اهتماماته الفكرية والمهنية لاحقًا. رغم عدم حصوله على درجة جامعية تقليدية متقدمة، إلا أنه كوّن لنفسه سمعة علمية مرموقة من خلال دراساته الذاتية المتعمقة وكتاباته الرصينة، فصار أحد أبرز المحاضرين في علم الاقتصاد السياسي في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر.
التحول الفكري نحو السلام
في أربعينات وخمسينات القرن التاسع عشر، شهد باسي التغيرات السياسية العاصفة التي عرفتها فرنسا وأوروبا، بما في ذلك ثورات 1848، وحرب القرم (1853–1856)، ما عمّق في داخله الشعور بأن الحرب ليست أداة عادلة أو فعّالة لتحقيق السيادة أو المصالح الوطنية. ومن هنا بدأ في الجمع بين اهتمامه بالاقتصاد والعدالة الاجتماعية من جهة، والدعوة إلى السلم الدولي من جهة أخرى.
الإنجازات والمؤسسات المرتبطة به
يُعد فريدريك باسي من أوائل المفكرين الذين دعوا إلى إنشاء تحالفات دولية سلمية دائمة لتسوية النزاعات بعيدًا عن العنف. في عام 1867، أسس “الجمعية الفرنسية للتحكيم والسلام” (Société Française pour l’Arbitrage entre Nations)، وهي واحدة من أوائل المنظمات السلمية الحديثة في أوروبا. كما أنشأ لاحقًا “الاتحاد البرلماني الدولي” عام 1889، إلى جانب السياسي البريطاني وليام راندال كريمر، وهي منظمة لا تزال قائمة حتى اليوم وتهدف إلى تعزيز الحوار البرلماني الدولي والتفاهم بين الشعوب.
من المؤسسات التي لعب فيها دورًا بارزًا أيضًا “الأكاديمية الفرنسية للعلوم الأخلاقية والسياسية”، التي شغل فيها عضوية نشطة، وأسهم من خلالها في الدفاع عن قيم التفاهم الدولي والعدالة الاجتماعية.
الإسهامات العلمية والفكرية
ألّف فريدريك باسي العديد من المؤلفات التي جمعت بين الاقتصاد والسياسة والسلام، ومن أبرز كتبه:
- الاقتصاد السياسي والسلام (Économie politique et la paix)
- التحكيم بين الأمم (L’Arbitrage entre les Nations)
- حياة وسيرة ريتشارد كوبدن (La Vie de Richard Cobden)، الذي كان من أبرز الشخصيات المؤثرة في باسي، حيث استلهم منه مبدأ التجارة الحرة كوسيلة للسلام.
بلغ عدد مؤلفاته أكثر من 20 عملاً منشورًا، إلى جانب عشرات المقالات والمحاضرات التي ألقاها في الجامعات والجمعيات الدولية.
الشخصيات المؤثرة في حياته
تأثر باسي بعدد من الشخصيات الفكرية والسياسية، من أبرزهم:
- ريتشارد كوبدن: المفكر البريطاني الذي نادى بالتجارة الحرة والسلام.
- جون ستيوارت ميل: الذي كانت أعماله في الحرية والفكر الليبرالي من المراجع الأساسية في تكوين فكر باسي.
- فيكتور هوغو: الذي تبنّى في كتاباته دعوة صريحة للوحدة الأوروبية والسلم العالمي، وهو ما انسجم مع رؤية باسي.
جائزة نوبل للسلام: عام 1901
في عام 1901، حصل فريدريك باسي على جائزة نوبل للسلام، مناصفةً مع السويسري هنري دونان، مؤسس الصليب الأحمر. ويُعد هذا العام الأول الذي منحت فيه جائزة نوبل، ما يجعل باسي من أوائل الرموز التي كرمتها الأكاديمية السويدية لهذا النوع من الجوائز.
جاء فوز باسي تقديرًا لدوره الطويل والمستمر في نشر ثقافة التحكيم الدولي واللاعنف، ولجهوده المؤسسية في تشييد منظمات سلمية دولية، في زمن كانت فيه أوروبا تغلي بالتنافسات العسكرية والاستعمارية.
السياق العالمي لفوزه
جاء منح الجائزة لباسي في فترة كانت أوروبا تقف على حافة سباق تسلح جديد، وكانت النزعة القومية تزداد تطرفًا، خاصة بعد الحرب الفرنسية-البروسية (1870-1871). ورغم هذه الأجواء، استطاع باسي أن يثبت أن المثقف والفيلسوف يمكن أن يكون له تأثير فعّال في إعادة تشكيل العلاقات الدولية على أسس التفاهم والحوار، لا الحرب والصراع.
جوائز وتكريمات أخرى
إلى جانب جائزة نوبل، حصل باسي على وسام جوقة الشرف الفرنسي بدرجة فارس، تكريمًا لإسهاماته في خدمة الفكر الإنساني والسلام. كما تم تكريمه في عدد من المؤتمرات الدولية، ومنحته عدة جامعات ألقابًا فخرية، منها جامعة أوكسفورد وجامعة جنيف.
الأثر والإرث
ترك فريدريك باسي إرثًا إنسانيًا وفكريًا عظيمًا لا يزال يُحتفى به حتى اليوم. فقد مهّد الطريق أمام الجهود المؤسسية للسلام، وأسّس لأفكار التحكيم الدولي والاتحاد البرلماني العالمي، وساهم في تشكيل وعي عالمي جديد حول إمكانية تجنب الحرب عن طريق الحوار.
كما أن كثيرًا من المفكرين والسياسيين في القرن العشرين، مثل نيلسون مانديلا ومارتن لوثر كينغ، ساروا على نهج مشابه لما أسسه باسي، من حيث الجمع بين النضال السلمي والفكر السياسي التقدمي.
توفي فريدريك باسي في 12 يونيو 1912 عن عمر يناهز 90 عامًا، بعد حياة حافلة بالإسهامات الفكرية والنضال الإنساني.
الخاتمة
يُعتبر فريدريك باسي نموذجًا فريدًا في التاريخ الإنساني، إذ استطاع المزج بين الفكر الاقتصادي والدعوة للسلام بطريقة مبتكرة وغير مسبوقة في عصره. لم يكن مجرد مفكر نظري، بل كان فاعلًا على أرض الواقع، مؤمنًا بأن العالم يمكن أن يتغيّر نحو الأفضل بالحوار لا بالقوة. إن إرثه الخالد يذكرنا بأن المثقف يحمل مسؤولية أخلاقية تجاه الإنسانية جمعاء.