سير

فريدريك بيرغيوس: الكيميائي الذي حوّل الفحم إلى وقود

 

المقدمة: من شرارة الفكرة إلى ثورة الوقود الصناعي

في بدايات القرن العشرين، كان العالم يقف على أعتاب ثورة صناعية جديدة، لكن المخاوف من نضوب مصادر الطاقة التقليدية بدأت تلوح في الأفق. وسط هذه الأجواء، برز اسم فريدريك بيرغيوس (Friedrich Bergius) كواحد من العقول المبدعة التي غيرت مجرى التاريخ الصناعي. لقد استطاع هذا الكيميائي الألماني أن يبتكر عملية رائدة لتحويل الفحم إلى وقود سائل من خلال الهدرجة، وهو إنجاز علمي منح البشرية بديلاً حيوياً في مجال الطاقة، وحصد بسببه جائزة نوبل في الكيمياء عام 1931.

إن سيرة فريدريك بيرغيوس ليست مجرد قصة عالم كيمياء بارز، بل هي ملحمة إنسانية تعكس صلابة الإرادة، والتفكير الابتكاري، والتفاعل مع تحديات عصر مضطرب سياسياً واقتصادياً.

النشأة والتكوين: جذور الطموح

وُلد فريدريك كارل رودولف بيرغيوس في 11 أكتوبر 1884 في مدينة غولدشميت قرب فروتسواف (التي كانت آنذاك ضمن الإمبراطورية الألمانية، واليوم تقع في بولندا). نشأ في أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، حيث كان والده يعمل في مجال الصناعات الصغيرة، ما أتاح له التعرف منذ الصغر على عالم الحرف والصناعات.

تميز بيرغيوس منذ طفولته بفضوله الدائم تجاه الأشياء المحيطة به، وكان يميل إلى تفكيك الأدوات المنزلية ليفهم آلية عملها. يروي بعض المؤرخين أن معلمه في المرحلة الابتدائية لاحظ شغفه المبكر بالعلوم وقال عنه: “سيكون لهذا الطفل شأن عظيم في عالم الاكتشافات”.

التعليم وبداية التكوين المهني: خطوات نحو المعمل

بدأ بيرغيوس دراسته الجامعية في الكيمياء في جامعة برسلاو، قبل أن ينتقل لاحقاً إلى جامعة لايبزيغ ثم إلى جامعة هايدلبرغ العريقة. وهناك تأثر بشكل عميق بأستاذه الشهير فريتز هابر، الذي سيصبح لاحقاً أحد أبرز الحائزين على جائزة نوبل لاكتشافه طريقة تثبيت النيتروجين لإنتاج الأمونيا.

في عام 1907 حصل بيرغيوس على درجة الدكتوراه من جامعة هايدلبرغ عن أطروحة تناولت التفاعلات الكيميائية ذات الضغوط العالية. كانت هذه الخطوة التأسيسية مهمة للغاية، إذ أن موضوع الضغوط العالية سيشكل لاحقاً جوهر ابتكاره الأكبر.

بعد الدكتوراه، عمل فترة قصيرة في معهد الكيمياء الفيزيائية بجامعة كارلسروه، حيث صقل مهاراته في التعامل مع التجارب المعقدة. هذه المرحلة أكسبته الخبرة العملية التي مكنته من خوض مغامرات بحثية أكثر جرأة.

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

في عام 1909 بدأ بيرغيوس تجاربه الخاصة حول إمكانية معالجة الفحم بالهيدروجين تحت ضغط وحرارة مرتفعين لتحويله إلى سوائل هيدروكربونية قابلة للاستخدام كوقود. لم تكن المهمة سهلة على الإطلاق؛ فقد كان التعامل مع الضغوط العالية يشكل خطراً كبيراً، وغالباً ما كانت الأجهزة تنفجر في المختبر.

لكن عزيمته لم تهتز. بين عامي 1910 و1913 سجل أول براءة اختراع لعملية هدرجة الفحم، وهو ما عُرف لاحقاً باسم عملية بيرغيوس (Bergius Process).

📌 جدول زمني مبسط لبداياته:

  • 1907: نال الدكتوراه من هايدلبرغ.
  • 1909: بدأ أبحاثه حول هدرجة الفحم.
  • 1913: سجّل براءة اختراع العملية.
  • 1914: بدأ تشغيل أول مصنع تجريبي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى.

كانت الحرب العالمية الأولى نقطة تحول؛ فقد احتاجت ألمانيا إلى مصادر بديلة للوقود، ما جعل أبحاث بيرغيوس تحظى بدعم حكومي وعسكري.

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

يُعد أعظم إنجازات فريدريك بيرغيوس هو تطوير تقنية هدرجة الفحم، حيث تُعالج جزيئات الفحم بالهيدروجين تحت ضغط يتجاوز 200 ضغط جوي وحرارة عالية لإنتاج وقود سائل شبيه بالبنزين.

هذه العملية أحدثت ثورة حقيقية لأنها:

  1. وفرت بديلاً عن النفط في الدول التي تمتلك احتياطات فحم هائلة.
  2. ساعدت ألمانيا في فترة ما بين الحربين على تجاوز أزمة الوقود.
  3. مهدت الطريق أمام تطور الصناعات البتروكيميائية الحديثة.

لاحقاً، تعاون بيرغيوس مع شركات كبرى مثل IG Farben، التي استثمرت في توسيع نطاق تطبيق العملية على مستوى صناعي ضخم. وبحلول الثلاثينيات، كانت ألمانيا تنتج مئات آلاف الأطنان من الوقود الاصطناعي بفضل أبحاثه.

ويُذكر أن مقارنات عديدة أجريت بين عصر ما قبل ابتكار بيرغيوس وبعده؛ ففي حين كانت الصناعات معتمدة بشكل شبه كامل على النفط الطبيعي، أصبح بالإمكان استخراج وقود اصطناعي من الفحم، ما منح بعض الدول استقلالاً استراتيجياً في مجال الطاقة.

التكريمات والجوائز الكبرى

في عام 1931، مُنح فريدريك بيرغيوس جائزة نوبل في الكيمياء مناصفةً مع كارل بوش تقديراً لأبحاثهما حول التفاعلات الكيميائية عالية الضغط والتطبيقات الصناعية المرتبطة بها.

كان هذا التكريم بمثابة تتويج لمسيرة شاقة. فقد أثنى المجتمع العلمي على مساهماته التي جمعت بين النظرية والتطبيق، وجعلت الكيمياء علماً قادراً على خدمة الاقتصاد والصناعة بشكل مباشر.

كتب بيرغيوس في خطابه عند تسلّم الجائزة: “إن التحدي الأكبر للعلم ليس في اكتشاف الظواهر فحسب، بل في تحويلها إلى قوة نافعة للإنسانية.”

التحديات والمواقف الإنسانية

رغم نجاحه العلمي، واجه بيرغيوس صعوبات شخصية ومهنية. فقد تعرض أحياناً لانتقادات بسبب ارتباط أبحاثه بالصناعات العسكرية الألمانية، خصوصاً خلال فترة النازية. لكنه نفسه لم يكن سياسياً، بل ركّز جهده على الجانب العلمي.

في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، عانى من خسائر مادية ومعنوية، إذ تم تدمير العديد من منشآت الوقود الاصطناعي في ألمانيا نتيجة القصف. اضطر إلى الانتقال إلى الأرجنتين حيث واصل نشاطه البحثي إلى حين وفاته.

هذه المرحلة أظهرت الجانب الإنساني في شخصيته؛ إذ كان دائم التشديد على أن العلم يجب أن يُسخّر لخدمة التنمية والسلام، وليس للحروب والدمار.

الإرث والتأثير المستمر

ترك فريدريك بيرغيوس إرثاً ضخماً في مجال الكيمياء الصناعية. ففكرته عن “الكيمياء تحت الضغط” لا تزال حجر الأساس في العديد من الصناعات البتروكيميائية الحديثة.

اليوم، يُنظر إلى إنجازات فريدريك بيرغيوس باعتبارها منطلقاً للتفكير في بدائل الطاقة، خصوصاً في زمن يشهد العالم فيه نقاشات واسعة حول الاستدامة. فالمبدأ الذي عمل عليه — تحويل موارد غير تقليدية إلى مصادر طاقة نافعة — لا يزال يلهم الباحثين في مجالات مثل الوقود الحيوي والطاقة المتجددة.

الجانب الإنساني والشخصي

لم يكن بيرغيوس مجرد عالم منعزل في مختبره، بل كان إنساناً يتسم بالتواضع والبساطة. أحب السفر والتعرف على الثقافات الأخرى، وهو ما انعكس في اختياره لاحقاً الاستقرار في الأرجنتين بعيداً عن صخب أوروبا المنهكة بعد الحرب.

كان يؤمن بأن “العلم لغة عالمية توحد البشر أكثر مما تفرقهم السياسة”. كما عرف عنه دعمه لطلبة العلم الشباب، إذ كان يقدم محاضرات مفتوحة لتشجيعهم على دخول عالم الكيمياء.

الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام

إن حياة فريدريك بيرغيوس تمثل قصة ملهمة عن كيف يمكن للإصرار والإبداع أن يغيرا وجه العالم. من طفل فضولي في مدينة صغيرة، إلى عالم عالمي حاز جائزة نوبل، استطاع أن يحوّل تحدي نقص الوقود إلى فرصة لابتكار حل ثوري.

الدروس المستفادة من سيرته كثيرة:

  • أن الشغف بالعلم قادر على تجاوز أصعب التحديات.
  • أن الابتكار الحقيقي لا يتوقف عند الاكتشاف، بل يتجسد في تحويل الفكرة إلى تطبيق يخدم البشرية.
  • أن الإرث العلمي لا يقاس فقط بالجوائز، بل بالتأثير المستمر الذي يتركه على الأجيال القادمة.

لقد رحل بيرغيوس في 30 مارس 1949 في بوينس آيرس – الأرجنتين، لكن إنجازاته لا تزال شاهدة على عبقرية إنسان آمن بأن للعلم رسالة أسمى من حدود الزمان والمكان.

 

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى