فريدريك جوليو-كوري: العقل الذي صنع الإشعاع الاصطناعي وحارب من أجل الإنسانية

النشأة والطفولة: ملامح التكوين
وُلد جان فريدريك جوليو في 19 مارس 1900 في باريس، فرنسا. كان الابن الوحيد لعائلة من الطبقة الوسطى، والده “هنري جوليو” كان كاتبًا، بينما والدته “إيميلي” كانت تهتم بشؤون المنزل. نشأ في ظل الحرب العالمية الأولى التي زرعت في قلبه بذور التمرد على الظلم، ودفعت به نحو العلم كوسيلة للتحرر والتقدم.
كان طفلًا مميزًا، يهوى فك الأجهزة الكهربائية، ويقضي وقتًا طويلًا في قراءة الكتب العلمية. لاحظ معلموه مبكرًا براعته في الفيزياء والرياضيات، وشجعوه على التقدم في دراسته، وكان لحبه للتجربة والاختراع الدور الأكبر في توجيه مساره لاحقًا نحو البحث العلمي.
التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة
التحق جوليو بمدرسة École de Physique et Chimie Industrielles de la Ville de Paris، وتخرج منها كمهندس فيزيائي عام 1923. ثم التحق بـ جامعة باريس حيث حصل على شهادة في العلوم، وتدرّج حتى حصل على دكتوراه في الكيمياء النووية عام 1930، عن أطروحته حول “الدراسات الكهروكيميائية للعناصر المشعة”.
في تلك المرحلة، التحق بالعمل كمساعد للعالمة الشهيرة ماري كوري في معهد الراديوم. وهناك التقى بابنتها “إيرين”، التي ستصبح شريكة حياته العلمية والعاطفية، وواحدة من أبرز النساء في تاريخ العلم.
الانطلاقة المهنية: أولى خطوات التأثير
بدأ جوليو مسيرته في معهد الراديوم، وركّز على دراسة النشاط الإشعاعي الطبيعي. في عام 1926 تزوج من إيرين، واتخذ كلاهما اسمًا مزدوجًا: جوليو-كوري تكريمًا لإرث عائلة كوري. ومنذ ذلك الوقت، أصبحا يعملان سويًا كفريق علمي لا يفترق.
جدول زمني لأبرز المحطات:
السنة | الحدث |
---|---|
1925 | انضم كمساعد باحث في معهد الراديوم |
1930 | حصل على الدكتوراه في الكيمياء النووية |
1934 | اكتشاف الإشعاع النووي الاصطناعي |
1935 | الفوز بجائزة نوبل في الكيمياء |
1937 | عُيّن أستاذًا في كوليج دو فرانس |
1946 | أصبح مفوض الطاقة الذرية في فرنسا |
1950 | عُزل من منصبه بسبب مواقفه السياسية |
1958 | وفاته في باريس |
الإنجازات الثورية: التغيير الحقيقي
أبرز إنجازاته جاء في عام 1934، عندما قام هو وزوجته بتجارب على ذرات الألومنيوم والبورون باستخدام جسيمات ألفا، ونجحا في توليد نشاط إشعاعي صناعي، ما يُعرف اليوم بـ الإشعاع النووي الاصطناعي.
لم يكن هذا الاكتشاف بسيطًا، بل فتح الباب أمام إمكانية إنتاج نظائر مشعة في المختبر، تُستخدم في الأبحاث والعلاج، بدلًا من الاعتماد فقط على المصادر الطبيعية النادرة والمحدودة.
لقد أعدنا تشكيل العالم، ذرةً ذرة، في مختبر صغير… وها نحن نراه ينبض بالإشعاع من صنع أيدينا.
— فريدريك جوليو-كوري
لحظة نوبل: القمة المنتظرة
في 10 ديسمبر 1935، تلقى فريدريك وإيرين جائزة نوبل في الكيمياء من الأكاديمية السويدية، عن “تخليقهما لعناصر مشعة جديدة”.
بيان لجنة نوبل جاء فيه:
“In recognition of their synthesis of new radioactive elements.”
(اعترافًا بإبداعهما في تخليق عناصر مشعة جديدة)
كان هذا الاكتشاف مهمًا للغاية، لا في المجال العلمي فحسب، بل في الأثر الذي أحدثه على الطب والصناعة وحتى السياسة العالمية. لم يكن مجرد إنجاز مخبري، بل ثورة علمية في قلب العصر النووي.
التحديات والإنسان وراء العبقرية
رغم الشهرة التي نالها، لم تكن حياة فريدريك خالية من التحديات. خلال الحرب العالمية الثانية، انضم إلى المقاومة الفرنسية السرية ضد الاحتلال النازي، وساهم في إخفاء الأبحاث العلمية الحساسة عن الألمان.
بعد الحرب، كان أول مفوض للطاقة الذرية في فرنسا، حيث أنشأ أول مفاعل نووي فرنسي. لكنه عُزل من منصبه في عام 1950 بسبب آرائه اليسارية، ومعارضته لاستخدام الطاقة النووية لأغراض عسكرية.
ورغم ذلك، لم يتوقف عن الدعوة إلى السلام، وترأس مجلس السلام العالمي، ونال جائزة ستالين للسلام.
الجوائز والإرث: ما تركه للعالم
إضافة إلى جائزة نوبل، حصل فريدريك على:
- وسام جوقة الشرف الفرنسي
- جائزة هيوز من الجمعية الملكية في لندن (1947)
- جائزة ستالين للسلام (1951)
نشر العشرات من الأبحاث في الكيمياء النووية، وأسّس معاهد بحثية لا تزال قائمة حتى اليوم، منها معهد جوليو-كوري في فرنسا.لجانب الإنساني: روح خلف الإنجاز
كان فريدريك مؤمنًا بأن على العلماء استخدام علومهم لصالح الإنسانية، لا لتدميرها. اشتهر بمقولته:
العلم بلا ضمير قد يكون هلاكًا للبشرية.
سعى طوال حياته لنزع السلاح النووي، وشارك في تنظيم حملات دولية لحظر التجارب النووية. كما كرّس وقتًا كبيرًا لتعليم الشباب، إيمانًا منه بأن “المستقبل يُبنى في المختبرات اليوم”.
ما بعد نوبل: الاستمرار أو الخلود
بعد نيله نوبل، واصل جوليو-كوري أبحاثه في الطاقة النووية، وأسهم في تأسيس البنية النووية لفرنسا، لكن تزايد التدخل السياسي في العلم جعله يتجه إلى النشاط الإنساني.
توفي في 14 أغسطس 1958، عن عمر ناهز 58 عامًا، بعد معاناة مع مرض السرطان، الذي يُعتقد أنه ناتج عن تعرّضه للإشعاع خلال تجاربه العلمية.
تم تكريمه بعد وفاته بتسمية شوارع ومؤسسات باسمه، ولا يزال يُذكر كرمز للنزاهة العلمية والمواقف الإنسانية.
الخاتمة: أثر خالد
من زقاقٍ متواضع في باريس إلى قاعة نوبل في ستوكهولم، شق فريدريك جوليو-كوري طريقه بالإرادة والعلم. كان مثالًا للعالِم الذي لا يسعى للمجد الشخصي، بل يسخّر علمه لصالح البشرية.
سيرة فريدريك جوليو-كوري ليست فقط درسًا في المثابرة، بل في الأخلاق العلمية أيضًا. وسبب فوز فريدريك جوليو-كوري بجائزة نوبل يكمن في الجمع بين العبقرية والتواضع، بين الاكتشاف والضمير.