فيكتور ف. هيس: راصد الإشعاع الكوني الذي تحدى السماء والحدود

ولد فيكتور ف. هيس في 24 يونيو 1883 في مدينة والدشتاين بمقاطعة شتايرمارك في الإمبراطورية النمساوية المجرية (النمسا الحالية). كان والده مشرفًا على ضيعة تابعة للنبلاء، مما وفر للعائلة الاستقرار رغم بساطة العيش.
في ذلك الزمن، كانت أوروبا تغلي بأفكار التنوير والثورات العلمية. التلغراف يربط بين القارات، والفيزياء الكلاسيكية تحكم العالم. وفي قلب هذا العصر المفعم بالتساؤلات، نشأ فيكتور صامتًا، منصتًا لصوت الرعد في السماء والبرق يلمع من خلف الغيوم. تساءل كثيرًا: ما الذي يحدث فوق الغيوم؟ هل هناك شيء نجهله فوق تلك الطبقات التي تعجز العين عن بلوغها؟
كان هيس طفلًا دقيق الملاحظة، مولعًا بالمجاهر، يعيد تركيب الآلات البسيطة، ويطرح أسئلة محيرة على معلميه. وفي أحد الأيام، بينما كان يلهو بجهاز كهربائي قديم أهداه له أحد الأقرباء، اكتشف أن نوعًا من “الوميض غير المرئي” يصدر من بعض المواد المعدنية. لقد بدأ شغفه المبكر بالإشعاع.
التعليم والمسار الأكاديمي: شغف العلم
التحق هيس بمدرسة جراتس الثانوية، وهناك أثبت تفوقه في الرياضيات والفيزياء. ثم انتقل إلى جامعة جراتس التقنية حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء عام 1906، وكان عنوان أطروحته يدور حول التوصيل الكهربائي للغازات.
كان أستاذه الأول في المختبر، فريدريش هاسنر، يرى فيه طالبًا لا يملّ من التجريب ولا يخاف الفشل. وكان تأثير هذا الأستاذ شديدًا عليه، إذ دفعه لاختيار مسار البحث العلمي عوضًا عن التدريس أو الصناعة، وهو خيار لم يكن شائعًا في ذلك الوقت.
واصل هيس عمله في معهد الراديو في جامعة فيينا، حيث بدأت تجاربه مع النشاط الإشعاعي والظواهر الكهرومغناطيسية. وهناك تعرف على أعمال ماري كوري ورذرفورد، وتعمق في دراسات الإشعاع الناتج عن العناصر الثقيلة، لكنه لاحظ ظاهرة محيرة: هناك إشعاع يأتي من مكان غير معروف، ولا يرتبط بالعناصر المشعة على سطح الأرض.
الانطلاقة المهنية: إلى السماء… على متن المنطاد
في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين، بدأ فيكتور هيس رحلة غير مألوفة. فقد قرر أنه لفهم مصدر هذا الإشعاع غير الأرضي، عليه أن يصعد إلى السماء، حرفيًا.
في الفترة بين 1911 و1913، أجرى هيس سلسلة من الرحلات الجوية على متن مناطيد هوائية، مزودًا بأجهزة لقياس النشاط الإشعاعي. في البداية، افترض العلماء أن الإشعاع يجب أن يقل كلما ارتفعنا، لأن الغلاف الجوي يُفترض أن يكون حاجزًا.
لكن المفاجأة كانت صادمة: الإشعاع يزداد مع الارتفاع! عند ارتفاع 5000 متر فوق سطح البحر، تضاعف معدل الإشعاع ثلاث مرات عما هو على الأرض.
“الإشعاع لا يأتي من الأرض… إنه يأتي من الفضاء. الكون هو المصدر.” — فيكتور ف. هيس، من مذكراته العلمية عام 1913.
الإنجاز الأعظم: اكتشاف الأشعة الكونية
بحلول عام 1912، نشر هيس نتائجه المذهلة في عدد من المجلات العلمية، مؤكدًا أن هناك إشعاعًا عالي الطاقة يخترق الغلاف الجوي قادمًا من الفضاء الخارجي. أطلق عليه لاحقًا اسم “الأشعة الكونية” (Cosmic Rays).
العام | الإنجاز | الأثر |
---|---|---|
1912 | إثبات زيادة الإشعاع مع الارتفاع | تحدي للنظريات الفيزيائية القائمة |
1913 | تقديم تفسير كوني للإشعاع | فتح باب فيزياء الجسيمات الأولية |
1936 | نال جائزة نوبل | الاعتراف العالمي بجهوده الرائدة |
الاكتشاف لم يكن مجرد رقم علمي، بل فتح الباب لفهم البنية التحتية للكون، وساعد لاحقًا في اكتشاف الجسيمات الأولية كالبوزيترون والميزون. ووفقًا لتقرير مؤسسة نوبل (1936):
“تُمنح جائزة نوبل في الفيزياء مناصفة إلى فيكتور ف. هيس لاكتشافه الأشعة الكونية، وإلى كارل أندرسون لاكتشافه البوزيترون، وكلاهما مهد الطريق أمام فيزياء الجسيمات.”
لحظة نوبل: تتويج رحلة العقل
في 10 ديسمبر 1936، وقف هيس على منصة قاعة ستوكهولم الكبرى، محاطًا بنخبة علماء العالم. كانت الحرب العالمية الأولى قد خمدت، والثانية على الأبواب، لكن العلم لم يتوقف عن الطيران.
ردة فعله كانت متواضعة، وقال في كلمته:
“لقد ارتفعت بمناطيد هوائية لأقيس إشعاعًا غير مرئي، فاكتشفت أن الكون ينادينا دومًا بأن ننظر للأعلى.”
التحديات والإنسان خلف الاكتشاف
لم تكن حياة هيس سهلة. خلال الحرب العالمية الأولى، اضطر لوقف أبحاثه مؤقتًا. وفي الثلاثينيات، وبسبب تصاعد النازية، اضطر للهجرة إلى الولايات المتحدة عام 1938، حيث عمل أستاذًا في جامعة فوردهام بنيويورك.
كان زملاؤه يصفونه بالرجل الصامت، لكنه في المختبر لا يعرف الهدوء. عانى من قلة التمويل أحيانًا، ومن عزلة علمية بعد هجرته، لكنه لم يفقد شغفه أبدًا.
الجوائز والإرث العلمي
بعد نوبل، نال هيس عدة أوسمة، منها:
- وسام ليبين (1940) من الجمعية الفيزيائية الأمريكية.
- عضوية في الأكاديمية النمساوية للعلوم.
- وسام الشرف النمساوي بعد عودته لوطنه لاحقًا.
ترك أكثر من 60 بحثًا علميًا في فيزياء الإشعاع والنوويات، وكان له دور كبير في تأسيس قواعد البحث في الأشعة الكونية.
الجانب الإنساني: العالم المتواضع
كان فيكتور هيس رجلاً روحانيًا، مؤمنًا بأن العلم والدين لا يتناقضان، بل يتكاملان. عُرف بتواضعه، وبمقولته الشهيرة:
“إن اكتشاف الكون لا يقل روعة عن اكتشاف النفس.”
ساهم في إنشاء عدة مختبرات في أمريكا، وشجع الطلاب المهاجرين على دخول مجال البحث العلمي.
ما بعد نوبل: إرثٌ لا يغيب
استمر هيس في التدريس والبحث حتى أوائل الستينيات. توفي في 17 ديسمبر 1964 في مدينة ماونت فيرنون، نيويورك.
لا يزال اسمه محفورًا في مختبرات فيزياء الفضاء، وتُكرم ذكراه سنويًا من قبل الاتحاد الدولي للفيزياء.
الخاتمة: أثر لا يبهت
من طفل يتأمل الغيوم في شتايرمارك، إلى عالم حلق بمناطيد تقيس الإشعاع، ثم إلى صاحب جائزة نوبل… هذه هي سيرة فيكتور ف. هيس، الرجل الذي قلب فهمنا لمصدر الإشعاع، وفتح عقولنا على أن الكون أوسع من أن نحدّه بالحدود.
علمه لا يزال ينبض في تجارب فيزياء الجسيمات، وفي أقمار صناعية تدرس الإشعاع القادم من المجرات. لقد علّمنا أن الفضول العلمي هو أسمى أشكال الشجاعة.