سير

فيلهلم كونراد رونتغن: مكتشف الأشعة السينية ورائد التصوير الطبي

وُلد فيلهلم كونراد رونتغن في 27 مارس 1845 في مدينة لينيب (Lennep)، التي كانت آنذاك جزءًا من مملكة بروسيا، وتُعرف اليوم باسم مدينة ريمشايد في ولاية شمال الراين-وستفاليا الألمانية. كان والده تاجرًا وصاحب مصنع للمنسوجات، وقد انتقلت العائلة إلى هولندا عندما كان فيلهلم في سن الثالثة، ليستقروا في مدينة أبلدورن، حيث تلقى تعليمه الأساسي.

ورغم تفوقه في المواد العلمية، واجه رونتغن عقبات في تعليمه الثانوي، أبرزها اتهامه ظلماً بتهمة رسم كاريكاتيري ساخر لأحد المعلمين، ما أدى إلى طرده من المدرسة دون الحصول على شهادة ثانوية رسمية. إلا أن ذلك لم يثنِ عزيمته، فقد التحق بمدرسة أوتريخت التقنية، ثم بجامعة زيورخ التقنية (ETH Zurich) في سويسرا، حيث حصل على شهادة الهندسة الميكانيكية عام 1868، تحت إشراف البروفيسور الشهير أوغست كوندت، الذي كان له أثر بالغ في مسيرته العلمية.

المسيرة الأكاديمية والبحثية

بعد تخرجه من زيورخ، بدأ رونتغن العمل كمساعد لأستاذه كوندت، وانتقل معه إلى جامعة فورتسبورغ الألمانية، ثم إلى جامعة ستراسبورغ. في عام 1874، بدأ التدريس كأستاذ مساعد في جامعة ستراسبورغ، وتم تعيينه لاحقًا أستاذًا في الفيزياء بجامعة غيسن عام 1879. ثم نُقل إلى جامعة فورتسبورغ مجددًا عام 1888، حيث شغل منصب مدير معهد الفيزياء. وكانت هذه المرحلة من أكثر فترات حياته خصوبة من الناحية العلمية.

في عام 1900، عُيِّن أستاذًا للفيزياء في جامعة ميونخ المرموقة، واستمر في هذا المنصب حتى تقاعده عام 1920. وقد رفض عروضًا للتدريس في جامعات كبرى في أمريكا وألمانيا، مفضلاً الاستقلال الأكاديمي والبحثي في بيئته العلمية الخاصة.

الاكتشاف الثوري: الأشعة السينية

كان الحدث الأبرز في حياة رونتغن العلمية في الثامن من نوفمبر عام 1895، عندما كان يجري تجارب على أنابيب تفريغ الغاز التي كانت شائعة الاستخدام في فيزياء الجسيمات. وخلال هذه التجارب، لاحظ صدور إشعاع غير مرئي من الأنبوب، أثّر في لوحات مغطاة بمادة الفلوريسنت حتى عندما كانت مغطاة بورق مقوى معتم. أطلق رونتغن على هذا الإشعاع اسم “الأشعة X” نسبة إلى طبيعته المجهولة آنذاك.

في الأيام التالية، كرر التجربة وأثبت أن هذه الأشعة قادرة على اختراق المواد الصلبة، وبالأخص جسم الإنسان، عدا العظام. وفي أول اختبار عملي، صوّر يد زوجته باستخدام هذه الأشعة، وكان من الواضح في الصورة الهيكل العظمي لخاتم زواجها، ما أثار دهشة المجتمع العلمي والطبي على حد سواء.

نشر رونتغن ورقة بحثية في ديسمبر 1895 بعنوان “عن نوع جديد من الأشعة”، وكانت هذه الورقة منطلقًا لعصر جديد في التشخيص الطبي والعلمي، وأحدثت ثورة في مجالات متعددة مثل الطب، والصناعة، والفيزياء.

جائزة نوبل والسياق العلمي

في عام 1901، مُنح فيلهلم كونراد رونتغن أول جائزة نوبل في الفيزياء في التاريخ، تقديرًا لاكتشافه “الأشعة ذات الطبيعة الغامضة التي أسماها الأشعة السينية”. وقد جاء هذا الاعتراف العالمي في وقت كانت فيه البشرية تبحث عن وسائل جديدة لفهم المادة والطبيعة. وقد أسهم اكتشافه في تأسيس مجال الطب الإشعاعي، وسرّع من تطور العلوم الطبية ووسائل التشخيص.

كان هذا الاكتشاف أيضًا متماشيًا مع روح العصر في أواخر القرن التاسع عشر، حين كانت الفيزياء الكلاسيكية تزدهر، لكنه في ذات الوقت مهّد الطريق أمام الثورة الكبرى التي قادها أينشتاين وبلانك لاحقًا، في ميادين النسبية والفيزياء الكمية.

التكريم والجوائز الأخرى

إلى جانب جائزة نوبل، حصل رونتغن على عدة أوسمة وتكريمات بارزة. فقد مُنح وسام “بورصة الشرف البافارية”، ووسام “جوقة الشرف الفرنسية”، وعدد من الأوسمة من الأكاديميات الأوروبية. كما سُميت وحدة قياس التعرض للأشعة باسمه (رونتغن – Röntgen)، تكريمًا لإسهاماته في فيزياء الإشعاع.

رغم هذه الشهرة، رفض رونتغن تسجيل براءة اختراع لاكتشافه، مؤمنًا بأن المعرفة يجب أن تكون ملكًا للبشرية جمعاء، وهو موقف يعكس نزاهته العلمية وتفانيه في خدمة الإنسان.

الأبحاث والإرث العلمي

لم يكن اكتشاف الأشعة السينية الإنجاز الوحيد لرونتغن، فقد نُشرت له قرابة 60 ورقة علمية تناولت مواضيع متنوعة، منها خواص البلورات، والحرارة النوعية، والظواهر الكهربائية في الغازات. لكنه بلا شك يُعد أحد مؤسسي علم التصوير الشعاعي (Radiography)، وأسهم بصورة غير مباشرة في تطوير تخصصات الطب النووي والأشعة العلاجية.

وقد أثّر عمله على أجيال من العلماء والأطباء، بل وأسّس لإحدى أهم الثورات في الطب الحديث. واليوم، يُعد التصوير بالأشعة السينية ركيزة أساسية في المستشفيات والعيادات حول العالم، ويُنقذ ملايين الأرواح سنويًا.

الشخصيات والمؤسسات المؤثرة في حياته

كان لأستاذه أوغست كوندت تأثير بالغ في توجيه رونتغن نحو البحث العلمي الدقيق، كما أن عمله في مؤسسات مرموقة مثل جامعات زيورخ، وستراسبورغ، وفورتسبورغ، وميونخ، قد وفر له بيئة خصبة للبحث والاكتشاف. ورغم أنه عاش حياة متواضعة نسبيًا، إلا أن علاقاته المهنية كانت قوية ومثمرة، وقد عُرف بين زملائه بالنزاهة والدقة والابتكار.

السنوات الأخيرة والوفاة

تقاعد رونتغن في عام 1920، وعاش بقية حياته في ميونخ في عزلة نسبية، خاصة بعد وفاة زوجته في عام 1919. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، خسر جزءًا كبيرًا من ثروته، وتوفى في 10 فبراير 1923 عن عمر ناهز 77 عامًا، بعد إصابته بسرطان الأمعاء. ولم يُعرف أن السرطان كان ناجمًا عن تعرّضه للإشعاع، ولكن يُنظر إليه اليوم كواحد من أوائل ضحايا العمل الإشعاعي غير المحمي.

أثره على العالم

يمكن القول إن اكتشاف رونتغن قد غيّر مسار الطب والفيزياء إلى الأبد. فقد أسس لفرع كامل من الطب الحديث، وساهم في تقنيات الكشف الصناعي والأمني، كما ألهم علماء كبارًا أمثال ماري كوري، الذين بنوا على اكتشافه لإجراء أبحاث على النشاط الإشعاعي والعناصر المشعة.

تُخلّد اليوم اسمه في كل مكان، بدءًا من المعامل والمستشفيات، إلى المراجع العلمية وأسماء الجوائز والمؤتمرات. وقد اعتبره العديد من المؤرخين أحد أعظم العلماء في القرن التاسع عشر، ورمزًا للعلم الذي يتجاوز حدود السوق والمكاسب، نحو خدمة الإنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى