في السماء جنة وفي الأرض أمي .. قراءة في عوالم الحنان والذاكرة في كتاب نسرين الأفغاني

تمهيد: الحروف التي تمس القلب قبل العين
عندما يلتقي القلم بالحب، ويتحول الحنين إلى حبرٍ على الورق، تتولد الكتب التي لا تُقرأ بالعقل فقط، بل بالقلب أولًا. وكتاب “في السماء جنة وفي الأرض أمي” هو من هذا الطراز النادر من المؤلفات التي لا تكتفي بسرد المشاعر، بل تُعيد تعريفها.
الكاتبة نسرين الأفغاني استطاعت في هذا العمل الصادر عام 2023 عن دار الآن ناشرون وموزعون، أن تقدم نصًّا يفيض إنسانية وصدقًا، حيث تتخذ من الأم محورًا للوجود، لا كشخص فقط، بل كرمز للحياة، والوطن، والجذور، والسكينة.
هذا الكتاب ليس رواية ولا سيرة، بل هو مزيج من المقالات، والمقاطع النثرية، والتأملات التي تشكل لوحة شعورية عن الأمومة، الحب، والامتنان. ومنذ الصفحات الأولى، تشعر أن الكاتب لا يحاول الإقناع، بل المشاركة — مشاركة التجربة الإنسانية الأعمق في حياة كل إنسان: العلاقة بالأم.
الفصل الأول: العنوان الذي يفتح أبواب الفردوس
العنوان وحده يكشف الكثير من جمال هذا الكتاب:
“في السماء جنة، وفي الأرض أمي”.
عبارة تجمع بين الإيمان والامتنان، بين الغيب والواقع، بين ما لا يُرى وما يُعاش. إنّها جملة تنتمي إلى أدب الدعاء أكثر من انتمائها إلى عناوين الكتب، لكنها هنا تتحول إلى مفتاحٍ لفهم رؤية الكاتبة للحياة.
فالسماء، في وعي نسرين الأفغاني، ليست بعيدة، بل متصلة بالأرض من خلال الأم. إنها ترى أن وجود الأم هو انعكاس للجنة، وأن البرّ بها ليس فقط واجبًا دينيًا، بل طريق إلى الطمأنينة الوجودية.
الفصل الثاني: الأم كجذرٍ للهوية الإنسانية
الكتاب في جوهره هو احتفاء بالهوية الأمومية، حيث لا تنظر الكاتبة إلى الأم كفرد، بل كـ”مفهوم كوني”. في نصوصها نقرأ تأملات عن المرأة التي تحتضن العالم بصبرها، والتي تُعيد بناءه في كل مرة ينهار فيها.
تقول في أحد المقاطع (نقلاً بالمعنى):
“كل الأشياء يمكن أن تتبدل، إلا يد أمي، لا تشبهها يد، ولا تحمل مثل دفئها يد.”
بهذا الحسّ العاطفي العميق، تبني الأفغاني نسيج كتابها، فهي لا تكتب لتصف أمّها فقط، بل لتصف الأنوثة الأمومية بكل تجلياتها، في الحنان، والرعاية، والعطاء غير المشروط.
تبدو الأم عندها كقلب العالم، وكأن الوجود يدور حول هذا النبع الإنساني الذي لا يجف، حتى لو غابت الجسد، تبقى الروح حاضرة في كل تفصيلة من تفاصيل الذاكرة.
الفصل الثالث: الذاكرة كمقدّسٍ إنساني
واحدة من أعظم ما في هذا الكتاب هي الطريقة التي تتعامل بها الكاتبة مع الذاكرة.
فهي لا تراها مجرد حنينٍ للماضي، بل شكلًا من أشكال العبادة الصامتة.
تستحضر طفولتها، رائحة بيتها، أصوات المطبخ في الصباح، صوت الأم وهي تدعو لأبنائها قبل أن يخرجوا إلى مدارسهم.
تُعيد تشكيل هذه التفاصيل لتصبح رموزًا للحب النقي، وتمنحها بعدًا فلسفيًا يلامس القارئ.
تكتب نسرين وكأنها تنسج سجادة من الذكريات؛ كل خيطٍ فيها لون من المشاعر: الأبيض هو الطفولة، الوردي هو الحنان، والرمادي هو الفقد.
وربما لهذا السبب يجد القارئ نفسه مشدودًا إلى هذه النصوص حتى وإن لم يكن قد فقد أمه، لأنه يرى فيها صورة الحب المطلق الذي نحلم به جميعًا.
الفصل الرابع: بين الحب والفقد – الحضور الغائب
تتحدث نسرين الأفغاني عن الأم كأنها ما زالت حاضرة، حتى حين تتناول فكرة الغياب والموت.
إنها لا ترى الفقد نهاية، بل تحولًا في شكل الحضور.
حين تغيب الأم عن الدنيا، فإنها تظل موجودة في تفاصيل الحياة، في الدعاء، وفي نبرة الصوت، وفي العادات التي نكررها دون وعي لأنها “كانت تفعلها”.
في أحد المقاطع تكتب الكاتبة عن الحنين قائلة:
“كلما ضاقت بي الدنيا، أغمضت عيني، فأتخيلها وهي تبتسم، عندها أعرف أن الأمور ستنصلح، ولو بعد حين.”
بهذا التصوير البسيط والعميق، يتجاوز الكتاب الحزن، ليصل إلى التسليم والسكينة. فهو لا يرثي الأم، بل يحتفل بها.
ولعل هذا ما يجعل القارئ يخرج من الصفحات بشعور بالدفء لا بالحزن، وكأن الكتاب يهمس له:
“الأم لا تموت، بل تنتقل إلى مكانٍ لا تصل إليه الأحزان.”
الفصل الخامس: الأسلوب الأدبي – رهافة نثرٍ يقترب من الشعر
من الناحية الفنية، تعتمد نسرين الأفغاني أسلوبًا نثريًا شاعرًا، فيه من الموسيقى الداخلية ما يجعل النص أقرب إلى القصيدة.
الجمل قصيرة، مشحونة بالعاطفة، تُستخدم فيها الاستعارات بكثافة:
– “يد أمي وطنٌ دافئ.”
– “حين تغيب، تصير الجدران صامتة، والبيت بلا روح.”
– “أمي، الضوء الذي لا ينطفئ في عتمة الأيام.”
اللغة هنا ليست وصفًا، بل وسيلة للتعبير عن الامتنان، لغة تتأرجح بين الفصحى الكاملة والنصوص الوجدانية الخفيفة، بحيث تبدو طبيعية وغير متكلّفة.
كما أن الكاتبة تجيد الانتقال من الخاص إلى العام: تبدأ من مشهدٍ شخصي، ثم ترفعه إلى مستوى التأمل الإنساني العام، وهو ما يمنح الكتاب صفة الشمول رغم بساطة لغته.
الفصل السادس: الرسائل التي تحملها الصفحات
من خلال صفحات الكتاب، يمكن للقارئ أن يلتقط عددًا من الرسائل العميقة، من بينها:
- الاعتراف بجميل الأم قبل فوات الأوان.
تذكّرنا الكاتبة أن الكلمة الطيبة والعناق البسيط قد يكونان أعظم من كنوز الدنيا. - الأم ليست فقط من ولدتنا، بل من ربتنا بحب.
ففي بعض المقاطع تتحدث نسرين عن الأمهات البديلات، كالجدة، أو الأخت الكبرى، أو حتى المرأة التي تحنو على غير أولادها. - الفقد لا يعني الغياب.
فكرة متكررة في الكتاب تؤكد أن الذكرى شكل من أشكال البقاء. - الحياة قصيرة، والبرّ أطول طريق إلى الجنة.
وهو ما يوحي بأن الكتاب ليس فقط أدبيًا، بل يحمل روحًا إيمانية عميقة دون وعظٍ مباشر.
الفصل السابع: الأم كصورة للوطن والهوية
في أكثر من موضع، تُسقط الكاتبة صورة الأم على صورة الوطن.
تكتب مثلاً أن “الوطن مثل الأم، نحبه رغم عيوبه، ونشتاق إليه حين نغادره”.
بهذه المقارنة، توحّد نسرين بين الأم والوطن في فكرة الانتماء غير المشروط.
فكلاهما يمنح ولا يطلب، يحتضن ولا يحاسب، يوجع حين نفارقه، ويُشفى القلب حين نعود إليه.
الحنين هنا يصبح شعورًا مزدوجًا: حنينًا للأم وحنينًا للوطن، وكأن الاثنتين وجهان لرحمٍ واحدٍ هو الدفء الإنساني.
الفصل الثامن: ملامح من السيرة الذاتية بين السطور
رغم أن الكتاب ليس سيرة ذاتية صريحة، إلا أن القارئ يلمح بوضوح أن الكاتبة تستند إلى تجربة شخصية عميقة مع والدتها.
هناك حزن خفي في الكلمات، ودمعة خلف السطور.
ومع ذلك، تحافظ الأفغاني على التوازن بين الخصوصية والتجريد؛ فهي لا تذكر تفاصيل كثيرة عن حياتها الشخصية، بل تجعل التجربة عامة يمكن لأي قارئ أن يجد نفسه فيها.
إنها تكتب عن ذاتها لتصل إلى الآخرين، وهذه واحدة من سمات الأدب الصادق.
الفصل التاسع: قيمة الكتاب في زمن الاغتراب العاطفي
في عالمٍ تزداد فيه المادية، وتبهت فيه المشاعر أمام سرعة الحياة، يأتي هذا الكتاب ليذكّرنا بما هو جوهري.
إنه يعيدنا إلى الأصل، إلى الأم التي كانت أول حب وأول معلم وأول حضن.
لذلك يمكن القول إن “في السماء جنة وفي الأرض أمي” ليس مجرد كتاب، بل مرآة عاطفية تضع القارئ أمام ذاته، أمام ما فقده أو ما يخشى فقدانه.
وهو أيضًا دعوة إلى التوقف والتأمل، إلى أن نُعيد النظر في طريقة تعاملنا مع أمهاتنا، ومع كل من أحبونا بلا مقابل.
الفصل العاشر: بين القارئ والكاتبة – علاقة وجدانية
ما يميز هذا العمل أن القارئ لا يشعر بأنه يقرأ كاتبة مجهولة، بل يشعر أنه يستمع إلى صديقة حكيمة تتحدث من القلب.
تفتح نسرين الأفغاني قلبها كما تفتح الأم ذراعيها، فلا مسافة بين الكاتبة وقارئها، وهذا سرّ نجاح الكتاب.
فهو لا يقدم دروسًا في البر أو الأخلاق، بل يجعل القارئ يتبنى تلك القيم تلقائيًا، دون وعظٍ أو تلقين، فقط عبر الدفء الصادق في الكلمات.
الفصل الحادي عشر: تقييم عام للكتاب
من منظور نقدي، يتميز الكتاب بعدة جوانب:
- الصدق الشعوري: كل فقرة نابضة بالعاطفة دون افتعال.
- اللغة الرفيعة والبساطة: مزيج نادر يجعل النص مفهومًا وعميقًا في آن واحد.
- البنية المرنة: لا يتبع تسلسلًا سرديًا تقليديًا، بل يعتمد على المقاطع المتفرقة التي تتكامل معنويًا.
- القيمة الإنسانية: الكتاب يعبّر عن قيم الحب، البر، الامتنان، والتواصل الروحي.
وربما لا يُقرأ هذا الكتاب مرة واحدة، بل يعود إليه القارئ كلما شعر بالحنين أو افتقد الطمأنينة.
الخاتمة: حين تتحول الكلمات إلى دعاء
في نهاية الكتاب، تدرك أن “في السماء جنة وفي الأرض أمي” ليس فقط عنوانًا، بل حقيقة شعورية يعيشها كل من ذاق معنى الأمومة أو فقدها.
إنه عمل بسيط في لغته، لكنه عميق في أثره.
تخرج منه بقلبٍ أكثر حنانًا، وبعينٍ أكثر امتنانًا، وبإيمانٍ أعمق بأن وجود الأم — في الحياة أو في الذاكرة — هو أعظم نعم الله.
“اللهم احفظ أمهاتنا، واغفر لمن رحلت منهن، واجعل في السماء جنتين:
واحدةً وعدتها في كتابك، وأخرى هي أمهاتنا.”
لمعرفة المزيد: في السماء جنة وفي الأرض أمي .. قراءة في عوالم الحنان والذاكرة في كتاب نسرين الأفغاني