في رأسي امرأة عائمة: رحلة داخل الذات بين التيه والبحث عن الحرية

المقدمة: امرأةٌ طافية في عقل الشاعرة
في مشهدٍ أدبي معاصر يزخر بالتجارب الشعرية والجمالية، تبرز أسماء جزائري بصوتٍ فريد يقدم لنا نصوصًا تغوص في عوالم المرأة والهوية والوجدان. من بين أعمالها اللافتة يُشكّل ديوان «في رأسي امرأة عائمة» محطة محورية تُعيد قراءة الذات الأنثوية في مواجهة الذاكرة والجسد والصمت.
هذا الديوان، الذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون في عام 2023، يتألف من 62 نصًا في نحو 198 صفحة من قصيدة النثر.
في هذا المقال سنسير في رحلة بين فصول ذلك العمل، نسبر أبعاده الأدبية والإنسانية، ونقف على تأثيره في فضاء الشعر النسائي والعربي.
النشأة الأدبية للسيرة الشعريّة: من أين انطلقت أسماء جزائري
أسماء جزائري هي شاعرة وكاتبة جزائرية، تُعنى بنصوص تجمع بين الشعر والنثر، بين التأمل والجرأة، بين الطفل الروحي والمرأة الحاضرة. حسب المدونات الأدبية، فإنها تحمل تخصصًا جامعيًا في المالية والبنوك، لكنها لم تألُ جهداً في متابعة طريقها في الحقل الأدبي.
سبق لها أن أصدرت أعمالًا تؤسس لرؤيتها مثل «حفنة هواء تحت السجّاد» (2018)، كما شاركت في مشاريع جماعية كـ «شهود من أهلها… أحاديث الجائحة» (2020).
لكن «في رأسي امرأة عائمة» يأتي كتتويج لتجربتها الناضجة في التعبير عن أنوثتها والمكتوم في وجودها، عبر لغة تتجاوز الصيغة التقليدية وتبحث في التمازج بين النثر والشعر.
الهيكل النصي واللغة: بين الشعر والنثر
من أولى ملاحظات القارئ لهذا الديوان أن النصوص لا تصنف بسهولة كمجرد شعر أو نثر؛ وإنما هي مزيج هجين من الخاطرة والرؤية الشعريّة، تستعمل الإيقاع الداخلي، وتوظف الصور المكثفة، وتفجر المفارقات والاستعارات.
وقد ورد في وصف الديوان:
«نصٌّ يكاد يخرج على التأطير والتصنيف؛ إذ يجمع بين خصائص الشعر والنثر، ويسري فيه مزيج سحريّ من روح القصيدة والقصة والخاطرة»
كل نصّ في الديوان يبدو وكأنه فقرة من قلب الذات، تتلعثم بالكلمات، لكنها تدقُّ في وعي القارئ. اللغة هنا ليست مجرد وسيط، بل كيان حي، تنخرط فيه صراعات الجسد والعقل والحنين.
المحاور الموضوعيّة في الديوان
ثمة عدة ثيمات رئيسية تتكرر في النصوص، وتُشكّل نسيج الديوان:
1. الهوية والاسم المستعار
في نص بعنوان «اسم مستعمل»، تقول الشاعرة:
«سمّاني أبي على اسمِ حبيبته / انتقاماً من جدّتي / وحينما يناديني لا أعلم مَن يريد تحديدًا / أنا أم هي؟!»
هنا تحول الاسم إلى حقل صراع بين الأب، والمرأة، والذات، وكيف تصبح المرأة طافية في عقل الأب أكثر من كونها هي نفسها. يعبّر هذا النص عن ضياع الهوية في خضم التداخل العائلي والاجتماعي.
2. الجسد والأنثى
الجسد في الديوان ليس مجرد وعاء، بل مركز للصراع والتمرد، للمسّ والكبت، للقبول والرفض. الشاعرة تمارس على جسدها فعل اللغة، تفككه وتعيده صياغته، تبوحه وتحصّنه. هذه المرأة العائمة في الرأس هي انعكاس للجسد المتحرّر أو المتمرد.
3. الغربة والاغتراب
عديد النصوص تنفتح على مفردات الغربة: رحلة النفس إلى الذات، النزوح الداخلي، الشعور بأن تكون في الخارج وأنت في الداخل. المرأة تصبح عائمة بين هذا وذاك، بين الوطن والضياع، بين الحضور والاختفاء.
4. القلم والصمت والكلام المحظور
تتعامل أسماء جزائري أيضًا مع فكرة الكتابة كفعل مقاومة، والصمت كقيد. في كثير من النصوص تختبر عنف الكلام والمحظور، تصويرًا للحظة الشجاعة في بوح ما كان يُسكَت عنه. الكتابة هنا ليست ترفًا بل ثورة شعورية.
5. التأمل والميتافيزيقيا
في بعض النصوص تلمح الشاعرة إلى لحظات استغراق روحي، إلى دمج ما بين الإنسان والسماء، بين الميتافيزيقي والملموس. المرأة هنا عائمة في الذهن والكون، كما لو أنها تتجاوز حدود الجسد إلى أفق لا مرئي.
عرض مختصر لبعض النصوص المختارة
من بين النصوص التي لاقت صدى في الديوان:
- «اسم مستعمل» كما ذكرنا أعلاه، نص قوي عن الاسم والهوية والتمزّق بين النفوس.
- نصوص الحب والجسد التي تحمل اقتحامًا للذات الأنثوية، تتحدَّى المحظور وتستنطق الصمت.
- نصوص التنهّد والغيبوبة التي تلتقط ما بين النوم واليقظة، ما بين الذكرى والرغبة.
كل نص في هذا الديوان يكاد يكون إضاءّة أعمق على التجربة الأنثوية المعذبة بين التاريخ واللغة والغياب.
السياق الزمني والثقافي
صدر الديوان في العام 2023، في وقتٍ تشهد فيه الساحة الأدبية العربية تجددًا في صوت المرأة، وارتفاعًا في المطالبة بالحق في التعبير عن الجسد والذاكرة وانعتاق اللغة من القيود الثقافية التقليدية.
كما أنه يأتي من الجزائر، البلد الذي مثّل مفترقًا بين اللغة العربية والتراث الأمازيغي والفرنسية، مما يعطي إضافات تداخلية في الخطاب الشعري لأسماء جزائري.
الاستقبال النقدي وردود الفعل
لاقى الديوان مراجعات إيجابية من القرّاء والنقاد. على موقع أبجد، حصل على تقييم 4.2 من 5 .
كُتب في المراجعات:
«تطلّع أسماء جزائري على القارئ المتعطّش إلى إبداع أصيل… نصوص تستحق شغف القراءة»
«مزيج سحري من روح القصيدة والقصة والخاطرة»
كما أن الغلاف الأخير جاء بتوقيع الناقد نزار فلّوح، الذي أشاد بجرأة النصوص وبقدرة الشاعرة على اقتحام قضايا الجسد والمجتمع والدين.
الرسائل والدلالات: ما وراء النص
ما يميز هذا الديوان أنه ليس مجرد تجليات ذاتية، بل يحمل رسائل أعمق:
- الدعوة إلى استعادة صوت المرأة في مجتمعات تكبّلها الصيغ التقليدية.
- التأكيد على أن الجسد ليس للسُّلطة بل للذات، أن تحرر المرأة يبدأ من بئر الذات.
- أن اللغة ليست مجرّد أداة بل فعل مقاومة، أن تبوح ما لا يُقال، أن تُعيد بناء المفردة من الداخل.
- أن الاغتراب الداخلي هو فضاء للإنجاز الشعري، فالعائمة في الرأس هي التي تلمّ المكسور من الذات وتعيده إلى صيغة الكلمة.
مقارنات أدبية وتأثير المحتوى
يمكن أن نقارن تجربة أسماء جزائري في هذا الديوان بتجارب شعرية معاصرة تلامس المرأة والهوية مثل نصوص نازك الملائكة، فدوى طوقان، أم كلثوم في نصوصها الخاطرة، سعاد الصباح، وغيرهنّ. لكن ما يميز جزائري هو جرأتها في العبث بالصيغة اللغوية، ودمجها بين ما هو الكامن والظاهر، وأسلوبها الشعري المتفجر.
كما أن تأثير هذا الديوان قد يبرز في السنوات المقبلة في الأبحاث حول الشعر النسائي العربي، وكمادة لدراسات أسلوبية وثقافية في الجامعات.
الخاتمة: امرأة عائمة لا تُحتجز في صفحات
حين نطوي هذا الديوان، لا نودّعه ككتاب عادي، بل نحتفظ بشخصية فكرية حية تتردد في الذهن. «في رأسي امرأة عائمة» ليست مجرَّد مجموعة نصوص، بل خارطة داخلية لذات تبحث، تتلوّى، تغيب وتظهر، تبوح وتصمد، تحتفي بالأنوثة في لحظات الهشاشة والهجوم.
من هذا الديوان نتعلم أن الكلمة حين تُصهر في التجربة تصبح فعلًا حيويًا، وأن الشعر ليس فقط تزيينًا بل هبة تصدع الصمت، وأن المرأة حين تعوم في رؤوسنا، تترك أثراً لا يُمحى.
لمعرفة المزيد: في رأسي امرأة عائمة: رحلة داخل الذات بين التيه والبحث عن الحرية