كتب

في قلب الرمال: قراءة تحليلية في كتاب "تاريخ سيناء القديم والحديث" لنعوم شقير

في ركن قصي من الصحراء، بين كثبان الرمال الصفراء وسكون التاريخ الممتد لآلاف السنين، تقف شبه جزيرة سيناء شامخة كشاهد على تعاقب الحضارات وعبور الأنبياء وجيوش الفاتحين. هذه البقعة التي ربطت القارات، ووقفت على تخوم الصراعات، ألهمت العديد من المؤرخين، غير أن أحدهم، المؤرخ اللبناني المصري نعوم شقير، منحها مكانتها التي تستحقها في عمل موسوعي فريد حمل عنوان “تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها”، ليصبح واحدًا من أهم المراجع عن سيناء في العصر الحديث.

 

من هو نعوم شقير؟

ولد نعوم بن بشارة شقير عام 1863 في بلدة الشويفات بجبل لبنان، وتخرج في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية في بيروت حاليًا)، ثم انتقل إلى مصر ليعمل في الجيش المصري بقلم المخابرات، وهو ما أتاح له فرصة ذهبية للسفر والاطلاع على الأقاليم المختلفة، وعلى رأسها شبه جزيرة سيناء. جمع بين المؤرخ الميداني والمفكر الرصين، وكتب بروح المغامر الذي لا يكتفي بالكتب، بل يسافر ليشاهد ويسأل ويدوّن. من أبرز أعماله أيضًا “تاريخ السودان”، غير أن كتابه عن سيناء يبقى جوهرته البارزة.

 

ملامح موسوعية: تقسيم الكتاب ومحتواه

نُشر الكتاب عام 1916 بعد سنوات من البحث والتنقل الميداني، ويقع في أكثر من 800 صفحة. وقد قسمه شقير إلى ثلاثة أقسام رئيسية، تُعبر عن نظرته الشمولية للموضوع:

 

1. القسم الأول: الجغرافيا الطبيعية والبشرية لسيناء

يرسم هذا الجزء صورة بانورامية لسيناء من حيث حدودها الجغرافية، تضاريسها، جبالها، ووديانها، مناخها، نباتاتها وحيواناتها، فضلًا عن القبائل والعشائر التي تقطنها، والمراكز السكانية مثل العريش ونخل والطور. ولا يكتفي شقير بوصف الأماكن، بل يربط بين التضاريس والاستخدامات البشرية والسياسية.

 

 

2. القسم الثاني: البدو في سيناء

وهو الجزء الاجتماعي من الكتاب، حيث خصصه لدراسة أنثروبولوجية وثقافية للبدو، فتكلم عن حياتهم، عاداتهم، أعرافهم، لهجاتهم، أنسابهم، وطرق معيشتهم. ويُعدّ هذا الجزء من أوائل الدراسات المنهجية التي تناولت المجتمع البدوي في سيناء، مما يجعله مرجعًا هامًا للباحثين.

 

 

3. القسم الثالث: تاريخ سيناء عبر العصور

وفيه يسرد شقير تسلسلًا زمنيًا دقيقًا لتاريخ سيناء منذ العصور الفرعونية حتى العصر الحديث، مرورًا بالأنبياء، الأنباط، البيزنطيين، الفتح الإسلامي، العهد العثماني، وصولًا إلى الحملة الفرنسية والاحتلال البريطاني. يسلط الضوء على الأحداث الكبرى التي جعلت من سيناء معبرًا استراتيجيًا للقوى الكبرى.

 

منهج نعوم شقير في التأليف: بين المعلومة والملاحظة

ما يميز هذا العمل عن غيره أن شقير لم يكن مجرد ناقل للمعلومات من الكتب القديمة، بل كان باحثًا ميدانيًا يتنقل في الصحراء، يتحدث مع البدو، ويدوّن رواياتهم، ويقارنها بما في المراجع الأجنبية والعربية. اعتمد على الوثائق البريطانية والمصادر العربية القديمة مثل المقريزي والقلقشندي، كما نقل عن الرحالة الغربيين مثل بوركهارت ونيبور.

وكان أيضًا حريصًا على التثبت من المعلومات، فكثيرًا ما يذكر رأيين أو ثلاثًا حول حادثة واحدة، ويُرجّح بينها بمنطق المؤرخ الناقد. وقد أشار في مقدمة كتابه إلى أنه تلقّى دعمًا رسميًا من الحكومة المصرية لجمع هذه المادة، ما مكّنه من الوصول إلى ملفات ووثائق نادرة.

 

سيناء: الجسر لا الحاجز

من الأفكار المحورية في كتاب شقير أن سيناء لم تكن حاجزًا طبيعيًا بين مصر وبلاد الشام، بل كانت على الدوام جسرًا للوصل والتبادل. فقد سلكها النبي موسى وقومه في رحلة الخروج، وعبر منها الفاتحون المسلمون في طريقهم إلى مصر، وكانت ممرًا للتجارة، كما تحوّلت لاحقًا إلى مسرح استراتيجي للسيطرة على قناة السويس.

يرى شقير أن تجاهل الحكومات المتعاقبة لسيناء كان خطأ تاريخيًا، وأن هذه البقعة بحاجة إلى اهتمام اقتصادي وثقافي وسياسي خاص، وهو رأي سبّاق لما تنادي به الاستراتيجيات الحديثة.

 

أهمية الكتاب تاريخيًا وجغرافيًا

يُعدّ هذا الكتاب مرجعًا لا غنى عنه لأي باحث في الشأن السيناوي أو تاريخ مصر الإقليمي. وتكمن أهميته في:

توثيق دقيق للقبائل والأنساب، خصوصًا وأن كثيرًا منها اندثر أو اندمج.

رصد حركة الطرق القديمة (طريق الحج الشامي، درب العريش، درب الحجاج)، مما يفيد في الدراسات الأثرية والجيواستراتيجية.

جمع تراث البدو الشفهي من أمثال وحكايات وأغاني شعبية.

كشف غموض فترات تاريخية كانت شبه مجهولة بسبب ضعف الوثائق.

كما ساهم في تشكيل الوعي المصري بأهمية سيناء، خصوصًا في مرحلة كان فيها الاحتلال البريطاني يهدد بفصلها عن مصر.

 

الكتاب اليوم: إعادة إحياء أم إغفال؟

بعد أكثر من قرن على تأليفه، لا يزال كتاب “تاريخ سيناء” محل تقدير لدى الباحثين والمؤرخين. وقد أُعيد نشره في طبعات متعددة، من بينها طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة، وأخرى صادرة عن مكتبة مدبولي.

لكن رغم قيمته، لم يحظَ هذا العمل بالانتشار الجماهيري، ربما بسبب طوله وكثافته العلمية. ومع ذلك، فإن تحليله اليوم يُعدّ ضرورة لفهم البعد الجيوسياسي لسيناء، خاصة في ظل التحديات الأمنية والتنموية التي تواجهها.

 

خاتمة: إرث باقٍ في قلب الرمال

إن كتاب “تاريخ سيناء” ليس مجرد مؤلف تقليدي، بل هو شهادة مؤرخ وطني رأى في الصحراء ما لم يره غيره. كتبها بنبض العارف، وروح العاشق، وعين المؤرخ المحقق. ولم يكن هدفه التوثيق فقط، بل إثبات أن سيناء ليست مجرد رمال وأطلال، بل شريان من شرايين مصر.

وبين السطور، نلمح رسالته الأهم: أن من أراد فهم حاضر سيناء ومستقبلها، فليقرأ تاريخها بعمق، كما فعل نعوم شقير قبل أكثر من مئة عام.

 

لمعرفة المزيد: في قلب الرمال: قراءة تحليلية في كتاب “تاريخ سيناء القديم والحديث” لنعوم شقير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى