في قلب العاصفة: قراءة سردية في رواية “We Need to Talk About Kevin” – حين تنفجر الكارثة من رحم الصمت

نبذة تعريفية عن الرواية
صدرت رواية We Need to Talk About Kevin (“نحتاج أن نتحدث عن كيفن”) في عام 2003 بقلم الكاتبة الأمريكية ليونيل شرايفر، وحققت منذ صدورها جدلًا واسعًا بسبب جرأتها في معالجة موضوعات محرّمة اجتماعيًا، مثل الأمومة غير الغريزية، والعنف المدرسي، والعلاقة المعقدة بين الوالدين والأبناء.
كتب الرواية بأسلوب الرسائل (Epistolary)، حيث تسرد البطلة، “إيفا”، تفاصيل حياتها وعلاقتها بابنها “كيفن” في رسائل إلى زوجها السابق “فرانكلين”، بعد أن وقع الحدث المفجع: مجزرة نفّذها الابن في مدرسته.
الرواية نالت جائزة أورانج للأدب الروائي عام 2005، وتُرجمت إلى أكثر من 30 لغة، وبيعت منها ملايين النسخ حول العالم، مما جعلها واحدة من أبرز الأعمال في أدب النفس والجريمة المعاصرة. وقد ساعد تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي عام 2011 في ترسيخ مكانتها كتحفة أدبية وفنية مشحونة بالعاطفة والتحليل النفسي العميق.
خيوط الحكاية: من ضوء البداية إلى ظلام النهاية
في عالمٍ يفيض بالصور المثالية للأمومة، ظهرت “إيفا” كاستثناء. لم تكن تتخيل نفسها أمًا، ولا رغبت بذلك في أعماقها. امرأة مثقفة، مغامرة، مديرة دار نشر لكتب السفر، تزوجت من “فرانكلين”، الأمريكي الكلاسيكي المتفائل، الذي كان يرى في تكوين الأسرة مشروعًا مقدسًا.
تبدأ الرواية بعد سنوات من المأساة الكبرى. “إيفا” تكتب رسائل طويلة إلى “فرانكلين”، الذي لم نعرف ما إذا كان يقرؤها، أو حتى حيًا. هي اليوم وحيدة، منبوذة، تعيش في بيت بسيط قرب السجن الذي يقبع فيه ابنها “كيفن”، الذي ارتكب مجزرة مروّعة في مدرسته الثانوية، راح ضحيتها سبعة من زملائه ومعلمَين.
لكن الرواية لا تبدأ من الجريمة، بل تنساب ببطء كتيار تحت الأرض. من خلال الرسائل، تكشف “إيفا” عن حياتها منذ أن قررت الإنجاب، وكيف أن “كيفن” كان، منذ ولادته، طفلًا مختلفًا.
“كيفن”: من الطفولة إلى الجريمة
منذ أن خرج “كيفن” إلى العالم، بدأت معركة غير متكافئة. كان رضيعًا صعبًا، يصرخ بلا سبب، يرفض الرضاعة، لا يبتسم، لا يستجيب للعاطفة. تصف “إيفا” كيف أن علاقتهما كانت أشبه بحرب باردة، كل منهما يختبر الآخر بصمت.
حين كبر قليلًا، أصبح أكثر تحدّيًا: يكسر ألعاب أخته الصغيرة، يلوّث غرفة أمه عمدًا، ويتلاعب بمشاعر والده بذكاء يحير الكبار. كان “فرانكلين” يراه طفلًا عاديًا، ويفسر تصرفاته على أنها طبيعية، بل ويرى أن “إيفا” تبالغ وتفتعل المشكلات.
ولكن “إيفا” كانت ترى خلف القناع. ترى البرود في عينيه، السخرية، التسلية الخفية في تعذيب من حوله. وفي أحد الأيام، تسممه غير المعلن لقطتها الصغيرة، كان رسالة واضحة: هذا الطفل ليس كباقي الأطفال.
تفكك الأسرة: الحب حين يُعمي، والشك حين يُمزق
في حين كانت “إيفا” تعيش في قلق دائم، كان “فرانكلين” يزداد تصلبًا في إنكار الحقيقة. وبمرور الوقت، أصبح البيت ساحة حرب صامتة. “كيفن” يلعب على الوترين معًا، يظهر أمام والده كالابن المثالي، فيما يمعن في استفزاز والدته.
ثم وُلدت “سليا”، الطفلة الثانية. كانت كل ما حلمت به “إيفا”، رقيقة، محبة، بريئة. لكن “كيفن” لم يكن ليرحب بها. في حادثة غامضة، فقدت “سليا” إحدى عينيها، وقال الجميع إنها “حادثة”، لكن “إيفا” كانت تعلم.
كلما اقتربت الرواية من “الخميس”، وهو يوم المذبحة، كلما توتر السرد. نكتشف أن “كيفن”، بعقلٍ بارد، خطط لجريمته، اشترى السهم والقوس (وليس سلاحًا ناريًا)، واختار الضحايا بعناية، وكان يعرف أنه سيُقبض عليه حيًا.
الذروة: يوم لا يُنسى
“الخميس” أصبح رمزًا لكل شيء انهار. دخل “كيفن” إلى مدرسته، وأطلق سهامه. سقط الطلاب واحدًا تلو الآخر، في فوضى دموية لم تشهدها المدينة من قبل. من بين القتلى كان والده “فرانكلين” وأخته “سليا”، اللذان قتلهما في المنزل قبل ذهابه إلى المدرسة، وكأنما أراد “أن يغلق الفصل الأخير”.
حين وصلت “إيفا” إلى البيت، وجدت جسديهما في الحديقة، بدم بارد مثل شخصيات اللوحات الزيتية. لم تصرخ. لم تبكِ. عرفت أن الجحيم الذي كانت تخشاه قد جاء.
الصمت بعد العاصفة: سجن مزدوج
اليوم، بعد سنتين من الحادثة، تذهب “إيفا” كل خميس إلى السجن، تزور “كيفن”. تقف أمامه، تنظر إلى الشاب الذي لم يعد طفلًا، تتساءل: من هو؟ هل كان شريرًا بالفطرة؟ أم أنها أخطأت؟ هل كانت أمًا فاشلة؟ هل ولد هكذا؟ أم صنعته؟
الرسائل التي تكتبها ليست فقط لفرانكلين، بل لنفسها. محاولة لفهم، لتفكيك اللغز. لكن لا جواب. “كيفن” نفسه، حين تسأله أخيرًا في نهاية الرواية: “لماذا؟”، يرد بجملة قصيرة، لكنها أكثر الجمل رعبًا:
“كنت أظن أنني أعلم، لكن الآن لست متأكدًا.”
تأملات في الجمال والرعب
الرواية ليست عن الجريمة فحسب، بل عن الذنب، وفقدان الثقة، والوحدة. ليست عن “كيفن” وحده، بل عن “إيفا”، عن كونها امرأة لا تشبه القوالب الجاهزة. عن أمومة تُفرض، لا تُولد. عن أن الشر لا يحتاج إلى مبررات.
ليونيل شرايفر كتبت الرواية بلغة مشبعة بالتحليل النفسي، بشخصيات متعددة الأبعاد، بصراع داخلي رهيب، بجمال لغوي يخفي خلفه حافة هاوية.
الأعمال الفنية المقتبسة عن الرواية
We Need to Talk About Kevin (2011)
- الإخراج: لين رامسي (Lynne Ramsay)
- بطولة:
- تيلدا سوينتن بدور “إيفا” – أداؤها رُشّح لجائزة BAFTA.
- إيزرا ميلر بدور “كيفن” – قدم أداءً صادمًا ومقنعًا.
- جون سي. رايلي بدور “فرانكلين”.
- تقييم IMDb: 7.5/10
- تقييم Rotten Tomatoes: 76% من النقاد – 62% من الجمهور.
الفيلم عُرض لأول مرة في مهرجان كان السينمائي عام 2011، ولاحقًا في عدة مهرجانات دولية. حصد إشادة نقدية واسعة لأداء “سوينتن”، والتصوير الغارق في الرمزية، والمونتاج المربك الذي يعكس اضطراب “إيفا”.
كيف استقبل الجمهور الفيلم والرواية؟
أثارت الرواية عند صدورها جدلًا اجتماعيًا واسعًا. هل يمكن أن تُلام الأم على جرائم ابنها؟ هل هناك شر فطري؟ هل الأمومة أمر غريزي أم اجتماعي؟ النقاد وصفوا الرواية بأنها “عبقرية نفسية” و”رحلة في قلب الظلام الأسري”.
أما الفيلم، فقد قسّم الجمهور. البعض رآه تحفة بصرية، والبعض الآخر وجده صعب الهضم نفسيًا. ومع ذلك، أعاد الفيلم الحياة للرواية، وأعادها إلى قوائم الأكثر مبيعًا عام 2012، بعد قرابة عشر سنوات من صدورها.
ساعد الفيلم أيضًا في طرح الرواية ضمن مناهج دراسية في علم النفس والأدب الحديث في جامعات أوروبية وأمريكية، نظرًا لغناها بالمفاهيم النفسية والأدبية.
كلمة أخيرة
We Need to Talk About Kevin ليست رواية تقرأها وتُغلقها. إنها تقرأك. تُشعرك بعدم الارتياح، لكنها لا تتركك كما كنت. تتحدى الصور النمطية، وتطرح سؤالًا مخيفًا: ماذا لو لم يكن الشر خارجيًا؟ ماذا لو كان يسكن البيت… في الغرفة المجاورة؟
إنها ليست فقط قصة عن كيفن، بل عن “الصمت”، “التجاهل”، “الخوف”، “الوحدة”، والنتائج المدمّرة حين لا نتحدث… في الوقت المناسب.