سير

في وجه الجوع والظلم… حكاية John Boyd Orr وصوت الضمير العلمي

المقدّمة: جذْب الانتباه

في قلب القرن العشرين، وفي زمنٍ تَعرّض فيه العالم لآفات الجوع والحرمان والفقر، برزت شخصيةٌ تحمل رسالةً متمايزة: ليست مجرد باحث عادي أو مُعلّم، بل مَن ربط بين الغذاء والسلام، وبين صحة الفرد وكرامة الإنسان. إنّ سيرة John Boyd Orr هي قصةٌ كم فيها من العلم، والمثابرة، والإنسانية. فقد كرّست حياته لتحدّي الجوع وسوء التغذية، ومن ثمّ لنشر فكرة أن «الغذاء والرخاء للجميع» هما أساسٌ للسلام.
بعبارةٍ أخرى: هذا ليس فقط مسار عالِم، بل مسار إنسانٍ تغيّر العالم بفكره، وحقق إنجازاتٍ جعلته يحصل على جائزةٍ كبرى هي جائزة نوبل للسلام عام 1949.
في هذا المقال، سننطلق في رحلة من النشأة إلى المجد، من الحقيقة إلى التأثير، نستعرض فيها حياة وإنجازات John Boyd Orr — سيرة John Boyd Orr — بأسلوبٍ يجمع بين الدقة العلمية والنبض الإنساني.

 

النشأة والتكوين

وُلد John Boyd Orr في 23 سبتمبر 1880 في بلدة كيلماورس (Kilmaurs)، مقاطعة أوِيرشاير، اسكتلندا. نشأ في أسرةٍ متوسطة الحال، وأبٌ يعمل صاحِب مقالع صخور، وأمٌ كانت ابنة أحد أصحاب المناجم، وفي المنزل نشأ محاطاً بكتبٍ ومتحدثين عن السياسة والمجتمع والدين.
منذ نشأته، لاحظ الطفل جون بُعدَ الفوارق الاجتماعية: ففي شبابِه، عندما درس في مدينة غلاسغو، خرج ليلاً إلى الأحياء الفقيرة وشاهد الآثار الواضحة لسوء التغذية بين الأطفال والكهول.
هذه المظاهر لم تكن مجرد مشاهد لفتت نظره، بل كانت الشرارة التي أشعلت فيه رغبةً عميقة: أن يُبدّل الواقع، لا أن يكتفي بالملاحظة. وهكذا، بدأ طريقه ليس فقط في التعليم، بل في خدمة الإنسان.

التعليم وبداية التكوين المهني

ابتدأ جون مساره التعليمي في مدرسة البلدة، ثم التحق بـ Kilmarnock Academy، ثم نال منحةً دراسية للالتحاق بكلية تدريب المعلمين في غلاسغو. وبعد حصوله على شهادة الماجستير في الفنون عام 1902، عمل معلماً في مدراس الأحياء الفقيرة، وفي تلك الفترة رأى عن قرب الآثار المدمّرة لسوء التغذية بين تلاميذ الحيّ.
لكنّه لم يكتف بأن يكون معلماً فحسب، بل عاد إلى الجامعة للحصول على بكالوريوس في العلوم عام 1910، ثم الشهادة الطبية MBChB عام 1914.
خلال تلك السنوات، بدأ بحثه في وظائف التمثيل الغذائي (metabolism) للبروتين والماء في الجسم، وهي البداية التي قادته إلى فهمٍ أعمق للعلاقة بين الغذاء والصحة، ومن ثم علاقة الغذاء بالمجتمع.

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

في 1 أبريل 1914، تولى جون منصب مدير «معهد تغذية الحيوانات» (Institute of Animal Nutrition) في جامعة أبردين، لكنه وجد أن المعهد لم يكن إلا فكرةً أُقرّت على الورق، دون مباني جاهزة.
وهنا ظهرت شخصيته: وضع خطةً لبناء أول جناح من الحجر، رغم نقص التمويل. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى حيث خدم كضابط طبي في الجيش البريطاني، ونال الأوسمة ­MC وDSO لبطولته.
بعد الحرب، عاد إلى أبردين، وأسّس ما سيُعرف لاحقاً بـ Rowett Research Institute، معترِفاً بأن تجربة الحرب غذّت لديه قناعةً بأن التغذية ليست مسألة فردية بل قضية وطنية ودولية.

جدول زمني مبسّط لبعض المحطات الأولى

السنةالحدث
1880ولادة جون بُويـد أور
1902حصوله على ماجستير الفنون
1910‑1914دراسات العلوم والطب
1914بدء إدارة معهد تغذية الحيوانات
1914‑18للخدمة في الحرب العالمية الأولى
بعد الحربتأسيس معهد Rowett وبحوث تغذية الإنسان

من هنا بدأ يتشكّل المسار الذي سيؤدي إلى إنجازاته الكبرى.

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

من أبرز إنجازات John Boyd Orr تقريره «Food, Health and Income» (1936) الذي كشف أن تكلفة الغذاء الكفيلة بتلبية متطلبات التغذية الأساسية تفوق إمكانات نصف سكان بريطانيا، وأن حوالي 10% كانوا يعانون من نقص فعلي في الغذاء.
هذا التقرير كان له أثر مباشر في وضع نظام تقسيم الغذاء (rationing) البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية.
في عام 1945، أصبح أول مدير عام لـ Food and Agriculture Organization (FAO) التابعة للأمم المتحدة، وسعى لإطلاق «مجلس الأغذية الطارئ الدولي» (International Emergency Food Council) لمواجهة أزمة ما بعد الحرب.
أما في ديسمبر 1949، فحاز على جائزة نوبل للسلام «لجهوده الدائمة في قهر الجوع والحاجة، ما ساعد في إزالة سببٍ أساسي من أسباب الصراع والحرب».
قبل إنجازاته، كان الجوع والحرمان أموراً مقبولة جزئياً كمباهة اجتماعية، لكن بفضله بدأ يُنظر إلى الغذاء كحق إنساني، وإلى الصحة العامة كمدخل للسلام. بعد إنجازاته، تغيرت السياسات الغذائية في عدة دول، وارتبطت التغذية بالعدالة الاجتماعية.

اقتباس بارز له: «We are now physically, politically and economically one world and nations so inter‑dependent that the absolute national sovereignty of nations is no longer possible.»
إنجازاته إذًا لم تكن مجرد بحث علمي، بل كانت حركة اجتماعية / سياسية إنسانية.

التكريمات والجوائز الكبرى

من أبرز التكريمات:

  • تم تنصيبه «سير» (Sir) في عام 1935.
  • في عام 1949، تم رفعه إلى مرتبة بارون بعنوان Baron Boyd‑Orr of Brechin Mearns.
  • جائزة نوبل للسلام عام 1949، وهي أرفع تكريم لدوره في مكافحة الجوع.
  • تكريم لاحق تمثل في لوح «بلو بلاك» (blue plaque) في جامعة غلاسغو، تكريماً لإرثه العلمي والإنساني.
    هذه الجوائز لم تُمنح فقط لتقدير علمه، بل لتكريم رؤيته: أن الغذاء حق من حقوق الإنسان، وأن السلام يبدأ من مائدة الطعام.

التحديات والمواقف الإنسانية

لم يكن الطريق سهلاً. من التحديات:

  • مقاومة سياسات اقتصادية واجتماعية تمنع التوزيع العادل للغذاء. فعلى سبيل المثال، فشلت اقتراحاته لإقامة «مجلس أغذية عالمي» في 1947 بسبب رفض بعض الدول الكبرى.
  • التجربة الشخصية في شبابه عندما دخل إلى أحياء غلاسغو الفقيرة وشاهد الأطفال المصابين بالكساح أو الجوع، تركت أثرًا إنسانيًا عميقًا في إيمانه بأن العلم يجب أن يخدم الناس.
  • موقفه الإنساني حين قرّر التبرّع بمبلغ جائزة نوبل إلى منظمات السلام، ما يؤكد أن إنجازه ليس لذاته بل للبشرية جمعاء.
    هذه المواقف تظهر أن John Boyd Orr لم يكن مجرد باحث منفصل عن معاناة الناس، بل جزءٌ من معركتهم اليومية نحو كرامةٍ صحية وإنسانية.

الإرث والتأثير المستمر

إرث John Boyd Orr لا يزال حاضراً عبر عدة مستويات:

  • في العلم: يُعدّ أباً للتغذية الحديثة، حيث أربط بين الغذاء والصحة ومن ثم بالصراع والسلام.
  • في التطبيقات: سياسات المدارس التي وفّرت الحليب المجاني للأطفال، ورفعت مستوى الصحة العامة.
  • في المؤسسات: معهد Rowett في أبردين، ومركز Boyd‑Orr بصحة السكان والأنظمة بجامعة غلاسغو.
  • في الفكر: إدراك أن الأمن الغذائي ليس رفاهية، بل شرطٌ للاستقرار والسلام العالميين.
    عبر هذه الأبعاد، أصبحت سيرة John Boyd Orr أكثر من قصة شخصية، بل رسالة متجددة لكل من يرى أن العلم يمكن أن يحلّ مشاكل العالم.

الجانب الإنساني والشخصي

خارج المختبرات والمؤتمرات، كان John Boyd Orr إنساناً بطبعه:

  • تزوج من Elizabeth Pearson Callum عام 1915، وأنجب منها ثلاثة أبناء.
  • تجاربه خلال الحرب واهتمامه بصحة الجنود أثبتت أنه يرى الإنسان خلف الأرقام والبيانات.
  • فلسفته الشخصية تلخّصها عبارة: «الغذاء والرخاء للجميع» كما قال في محاضرة نوبل:

«Hunger and want in the midst of plenty are a fatal flaw and a blot on our civilization… we have to build … from the bottom upwards…»
إنه لم يكن راغباً فقط في رفع أرقام الوزن والطول أو خفض معدلات المرض، بل كان يسعى لعالم تتحقّق فيه كرامة الإنسان في مائدة الغذاء.

الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام

من سيرة John Boyd Orr نستخلص عدة دروس:

  1. العلم من دون إنسانية يُفقد معناه – فحياته تثبت أن المعرفة يجب أن تُوجَّه لخدمة الناس.
  2. القيمة الحقيقية تكمن في التأثير لا فقط في الشهرة – رغم أنجزته العلمية، إلا أن ما أبرزها هو التزامه بتحقيق التغذية للجميع.
  3. السلام يبدأ من المائدة – ربط بين الأمن الغذائي والسلام الاجتماعي، فكرةٌ ما زالت ملهمة اليوم.
  4. المثابرة وانتخاب هدف يتجاوز الذات – لم يتوقّف عند حد البحث أو التدريس بل امتدّ إلى السياسة العالمية والمناصرة.
  5. الإنسان في صميم العمل العلمي – وهو تذكير أننا لا نعمل من أجل أرقام أو جوائز، بل من أجل حياةٍ كريمة لكل إنسان.

إن قراءة «سيرة John Boyd Orr» هي أكثر من معرفة شخصية عظيمة، إنها دعوة لنا جميعاً: أن نكون علماء، مهنيين، مواطنين، يحملون بداخلهم روحاً تُوقن بأن تغيير العالم يبدأ بخطوة صغيرة—بالتغذية، بطاولة الطعام، بفكرة العدالة، وبالنية الصافية.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى