قراءة تحليلية في كتاب "اليوتوبيا والثورة" للدكتور حسن علي يونس

يُعد كتاب “اليوتوبيا والثورة” للدكتور حسن علي يونس من الأعمال الفكرية العميقة والممتدة التي تتناول علاقة الإنسان بالحلم الثوري والطموح نحو عالم مثالي. صدر الكتاب عن دار النهضة العربية في بيروت عام 2023، ويقع في أكثر من 700 صفحة، ما يجعله مرجعًا فكريًا غنيًا لمن يريد فهم العلاقة بين المفهومين المحوريين: اليوتوبيا (المدينة الفاضلة) والثورة (التحوّل الجذري في الواقع).
مدخل إلى المفاهيم: الثورة واليوتوبيا
يرى المؤلف أن الثورة ليست فقط فعلًا سياسيًا يتجسد في إسقاط نظام حكم واستبداله بآخر، بل هي تعبير عن توق إنساني عميق للعدالة، الكرامة، الحرية، والمساواة. أما اليوتوبيا، فهي الحلم بمجتمع مثالي ينعم فيه الناس بالأمن والرخاء والمساواة، وغالبًا ما تُولد هذه الأحلام في ظل واقع مضطرب.
يشير المؤلف إلى أن القرن العشرين قد تميّز بكثافة الحركات الثورية، من الثورة البلشفية إلى الثورة الصينية، وصولًا إلى ثورات العالم العربي، وهي كلها مدفوعة إما بأحلام يوتوبية أو برغبات عارمة في كسر أنظمة الاستبداد.
الثورة: من المعنى الفلكي إلى السياسي
يتتبع الكتاب تطور مفهوم “الثورة”، بدءًا من استعماله الفلكي في العصور القديمة (كتغير في مواقع الأجرام السماوية)، ثم تطوّره إلى معنى اجتماعي-سياسي مع بزوغ الثورة المجيدة في بريطانيا في القرن السابع عشر. في هذا السياق، يبرز المؤلف أن الثورة مفهوم مركّب يتداخل فيه التاريخي بالفلسفي، والعاطفي بالعقلاني، واليوتوبي بالواقعي.
اليوتوبيا: الحلم والمأزق
اليوتوبيا، بحسب المؤلف، ضرورية لبقاء الإنسان في حالة أمل وسعي نحو الأفضل. لكن الإشكالية تكمن في أن اليوتوبيا عندما تتحول إلى مشروع سياسي قسري، فإنها كثيرًا ما تؤول إلى ديستوبيا (نقيض المدينة الفاضلة)، حيث تتحول النوايا الحسنة إلى نظم قمعية تفرض نفسها باسم تحقيق الخير العام.
يضرب المؤلف أمثلة من التاريخ مثل الثورة الفرنسية والثورة الروسية، إذ بدأتا كأحلام كبرى لتحقيق العدالة، لكن سرعان ما تحوّلتا إلى أنظمة قمعية نتيجة غياب آليات التوازن بين الحلم والواقع.
الثورة واليوتوبيا: علاقة جدلية
يرى المؤلف أن العلاقة بين الثورة واليوتوبيا علاقة معقدة وجدلية. فكل ثورة كبرى تبدأ غالبًا بحلم يوتوبي، إلا أن هذا الحلم سرعان ما يصطدم بواقع المصالح، القوى المضادة، والصراعات الداخلية. الثورة إذًا لا يمكن أن تكون أداة مباشرة لتحقيق اليوتوبيا، إلا إذا تمّت إدارتها بعقلانية، وبنية نقدية، وأفق إنساني مفتوح.
نماذج تحليلية من القرن العشرين
يُفرد الكتاب فصولًا كاملة لتحليل ثورات القرن العشرين، لا سيما الثورة البلشفية عام 1917، والثورة الصينية بقيادة ماو تسي تونغ، والثورة الإيرانية عام 1979. في كل حالة، يرصد المؤلف المسار الذي انتقلت فيه الثورة من الحلم إلى السلطة، ومن الطموح إلى القمع. يُبيّن أن إخفاق الثورات لم يكن بسبب غاياتها، بل بسبب الأدوات التي استُخدمت لتحقيق تلك الغايات، وغالبًا ما كانت هذه الأدوات سلطوية أو عنيفة.
الثورة والهوية
من بين المحاور التي يناقشها الكتاب أيضًا هي قضية الهوية. فالثورات لا تغيّر فقط النظام السياسي، بل تعيد تشكيل الهوية الوطنية والثقافية والاجتماعية. ويُبرز المؤلف أن إعادة تشكيل الهوية قد تكون شاملة ومحرّرة، لكنها أيضًا قد تُستخدم لتكريس هوية أحادية تُقصي الآخر المختلف، سواء دينيًا أو ثقافيًا أو سياسيًا.
نقد مثالية الثورة
يحذّر المؤلف من النزوع نحو المثالية الثورية التي تفترض إمكانية “تطهير” المجتمع من كل فساده في لحظة واحدة. ويُبرز كيف أن هذا التوجّه قد يؤدي إلى تبرير استخدام العنف المفرط، بل حتى إلى تكريس استبداد جديد باسم الشعب أو الحرية أو الدين. وهو هنا يستفيد من تحليلات هانا أرندت وكارل بوبر وغيرهم من المفكرين الذين دعوا إلى بناء تحوّلات تدريجية، مدنية، ديمقراطية.
نقد اليوتوبيا
لا ينكر الكاتب أهمية الحلم اليوتوبي، لكنه في الوقت ذاته يدعو إلى الحذر منه عندما يتحوّل إلى مشروع سياسي مغلق. فاليوتوبيا، في نظره، يجب أن تظل أفقًا أخلاقيًا وفلسفيًا، لا مخططًا جاهزًا للتنفيذ بالقوة. ولذلك، يرى أن فشل الكثير من الثورات ناتج عن محاولات تحويل اليوتوبيا إلى أنظمة سياسية شمولية.
خاتمة: نحو توازن بين الحلم والواقع
ينهي المؤلف كتابه بدعوة واضحة إلى إعادة التفكير في المفاهيم الكبرى كالثورة واليوتوبيا، ليس من أجل التخلي عنها، بل من أجل عقلنتها وإخضاعها للنقد الذاتي. الثورة يجب أن تكون مدفوعة بالحلم، لكنها يجب أن تُدار بالوعي، واليوتوبيا يجب أن تلهم، لا أن تُفرض. وبين الطموح والإمكانات، توجد فسحة يجب أن يملأها الإنسان الحر بالعقل، والحكمة، والتجربة التاريخية.
لمعرفة المزيد: قراءة تحليلية في كتاب “اليوتوبيا والثورة” للدكتور حسن علي يونس