قوة القلوب: قصة الظلم والعدالة..الليلة ٤٢

قالت: بلَّغني أيها الملك السعيد أن قوة القلوب لما غضب عليها الخليفة وأسكنها في مكان مظلم، استمرت فيه على هذا الحال ثمانين يومًا، فاتفق أن الخليفة مرَّ يومًا من الأيام على ذلك المكان، فسمع قوة القلوب تنشد الأشعار، فلما فرغت من إنشادها، قالت: يا حبيبي يا غانم، ما أحسنك، وما أعفَّ نفسك! قد أحسنتَ لمن أسأتَ إليه، وحفظتَ حرمة من انتهكتَ حرمته، وستَرتَ حرمه، وهو سبَّك وسبَّ أهلك، ولا بدَّ أن تقف أنت وأمير المؤمنين بين يدي حاكم عادل، وتنصف عليه في يوم يكون القاضي فيه هو الله، والشهود هم الملائكة.
فلما سمع الخليفة كلامها وفهم شكواها، علم أنها مظلومة، فدخل قصره وأرسل الخادم إليها، فلما حضرت بين يديه، طرقته وهي باكية العين حزينة القلب، فقال: يا قوة القلوب، أراكِ تتظلمين مني، وتنسبينني إلى الظلم، وتزعمين أنني أسأتُ إلى من أحسن إليَّ، فمن هو الذي حفظ حرمتي وانتهكتَ حرمته، وستَرتَ حرمه وسبَّيته وسبَّيتُ أهله؟ قالت: غانم بن أيوب؛ فإنه لم يقربني بفاحشة، وحقَّ نعمتك يا أمير المؤمنين. فقال الخليفة: لا حول ولا قوة إلا بالله، يا قوة القلوب تمنَّي عليه، فأنا أبلغك مرادك. قالت: تمنَّيتُ عليك محبوبَك غانم بن أيوب. فلما سمع كلامها قال: أحضره إن شاء الله مكرمًا. فقالت: يا أمير المؤمنين، إن حضرته تهبني له؟ فقال: إنْ حضرته وهبتكِ هبةً كريمٍ لا يُردُّ في عطائه. فقالت: يا أمير المؤمنين، أذن لي أن أدور عليه لعلَّ الله يجمعني به. فقال لها: افعلي ما بدا لكِ.
فرحت وخرجت، ومعها ألف دينار، فزارت المشايخ وتصدَّقت عنها، وطلعت ثاني يوم إلى سوق التجار، وأعطت عريف السوق دراهم، وقالت له: تصدَّق بها على الغرباء. ثم طلعت ثاني جمعة ومعها ألف دينار، ودخلت سوق الصاغة وسوق الجواهرجية، فطلبت عريف السوق فحضر، فدفعت له ألف دينار وقالت له: تصدَّق بها على الغرباء. فنظر إليها الغريب ما أظرفه وما أكمله! وكان هو غانم بن أيوب المتيم المسلوب، ولكن العريف ليس له بها معرفة، وكان يظن أنه رجل مسكين مدين سُلبت نعمتُه، أو عاشق فارق أحبَّته. فلما سمعت كلامه خفق قلبها، وتعلَّقت به أحشاؤها، فقالت له: أرسل معي من يوصلني إلى دارك. فأرسل معها صبيًّا صغيرًا، فأوصلها إلى الدار التي فيها الغريب فشكرته على ذلك، فلما دخلت تلك الدار وسلمت على زوجة العريف، قامت زوجة العريف وقبَّلت الأرض بين يديها لأنها عرفتها، فقالت لها قوة القلوب: أين الضعيف الذي عندكم؟ فبكت وقالت: ها هو يا سيدتي، إلا أنه ابن ناس وعليه أثر النعمة. فالتفتت إلى الفراش الذي هو راقد عليه وتأملته، فرأته كأنه هو بذاته، ولكنه قد تغيرت حاله وزاد نحوله، ورقَّ حتى صار كالخلال، وانبهم عليها أمره فلم تتحقق أنه هو، ولكن أخذتها الشفقة عليه، فصارت تبكي وتقول: إن الغرباء مساكين وإن كانوا أمراء في بلادهم. ورتبت له الشراب والأدوية، ثم جلست عند رأسه ساعة، وركبت وطلعت إلى قصرها، وصارت تطوف في كل سوق لأجل التفتيش عن غانم.
ثم إن العريف أتى بأمه وأخته فتنة، ودخل بهما على قوة القلوب وقال: يا سيدة المحسنات، قد دخل مدينتنا في هذا اليوم امرأة وابنتها، وهما من وجوه الناس، وعليهما أثر النعمة لائح، لكنهما لبستا ثيابًا من الشعر، وكل واحدة منهما معلقة في رقبتها مخلاة، وعيونهما باكية، وقلوبهما حزينة. ها أنا أتيتُ بهما إليك لتأويهما وتصونيهما عن هذا السؤال؛ لأنهما ليستا أهلًا لسؤال اللئام، وإن شاء الله ندخل بسببهما الجنة. فقالت: والله يا سيدي لقد شوقتني إليهما، وأين هما؟ فأمرهما بالدخول، فعند ذلك دخلت فتنة وأمها على قوة القلوب، فلما نظرتهما قوة القلوب وهما ذاتا جمال، بكَت عليهما وقالت: والله إنهما أولاد نعمة، ويلوح عليهما أثر الغنى. فقال العريف: يا سيدتي، إننا نحب الفقراء والمساكين لأجل الثواب، وهؤلاء ربما جار عليهم الظلم وسلبوا نعمتهم وأخربوا ديارهم.
ثم إن المرأتين بكيتا بكاءً شديدًا، وتفكرتا في غانم بن أيوب المتيم المسلوب، فزاد نحيلهما، فلما بكيتا بكَت قوة القلوب لبكائهما، ثم إن أمَّها قالت: نسأل الله أن يجمعنا بمن نريد، وهو ولدي غانم بن أيوب. فلما سمعت قوة القلوب هذا الكلام علمت أن هذه المرأة أم معشوقها، وأن الأخرى أخته، فبكت هي حتى غشي عليها، فلما أفاقت أقبلت عليهما وقالت لهما: لا بأس عليكما، فهذا اليوم أول سعادتكما وآخر شقاوتكما، فلا تحزنا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.