سير

كارل فرديناند كوري: كيميائيّ النور الذي اكتشف طاقة الحياة

المقدمة:

في تاريخ العلوم، هناك أسماء لا تُنسى لأنها لم تكتفِ بإضافة سطرٍ في كتاب المعرفة، بل غيّرت الطريقة التي نفهم بها الحياة ذاتها. ومن بين تلك الأسماء يسطع نجم كارل فرديناند كوري (Carl Ferdinand Cori)، العالم التشيكي الأمريكي الذي استطاع مع زوجته جيرتي تيريزا كوري (Gerty Cori) أن يفكّ شيفرة واحدة من أعقد أسرار الجسد البشري: كيف يُحوّل الجسم الغذاء إلى طاقة.
إنها رحلة علمية وإنسانية متكاملة، تبدأ في قلب أوروبا وتنتهي في أروقة جامعة واشنطن، حيث حاز كوري وزوجته جائزة نوبل في الطب عام 1947 عن اكتشافاتهما التي أرست أسس علم الكيمياء الحيوية الحديثة. هذه هي قصة رجلٍ جعل من العلم وسيلةً لفهم الإعجاز الإلهي في جسد الإنسان، ومن الشغف طريقًا نحو المجد العلمي.

الفصل الأول: النشأة والجذور الأولى

وُلد كارل فرديناند كوري في 5 ديسمبر عام 1896 في مدينة براغ، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية (حاليًا عاصمة جمهورية التشيك).
نشأ في بيئةٍ علمية راقية، فوالده كان أستاذًا في علم الحيوان، مما وفر له مناخًا فكريًا خصبًا جعل العلم جزءًا من حياته اليومية منذ طفولته.
كانت تلك السنوات الأولى شاهدة على ملامح شخصيةٍ فريدة: فضولٌ لا يهدأ، وانضباطٌ فطريّ، وحبٌّ عميق للملاحظة الدقيقة.

في أحد لقاءاته اللاحقة، كان كوري يقول دائمًا:

“الطفولة التي تتيح لك أن تسأل بحرية، هي التي تزرع فيك عالم المستقبل.”

هذه البيئة الفكرية المنفتحة جعلت من براغ في مطلع القرن العشرين أرضًا خصبةً للعلماء الشباب. هناك، بدأ كوري يكوّن وعيه العلمي، متأثرًا بالحركة العلمية التي شهدتها أوروبا آنذاك، وبالمدارس الفكرية التي كانت تمزج بين الفلسفة والعلوم الطبيعية.

الفصل الثاني: التعليم والتكوين العلمي

بدأ كارل كوري دراسته الجامعية في جامعة تشارلز في براغ، حيث درس الطب والصيدلة. ومع بداية الحرب العالمية الأولى، اضطر إلى الانخراط في الخدمة العسكرية كضابطٍ في الجيش النمساوي، لكنه لم يتخلَّ عن حلمه العلمي حتى في خضم الحرب.

بعد انتهاء الحرب، عاد إلى الجامعة ليُكمل دراسته بجدٍّ واجتهاد، وحصل على درجة الدكتوراه في الطب عام 1920. خلال تلك الفترة، تعرف على زميلة دراسته جيرتي تيريزا رادنتز، الطالبة النابهة التي كانت تشاركه الاهتمام بالكيمياء الحيوية.
كانت هذه العلاقة بداية شراكة إنسانية وعلمية استثنائية، ستُغيّر مسار العلم الحديث فيما بعد.

في تلك السنوات، كانت الكيمياء الحيوية فرعًا ناشئًا لم يأخذ بعد مكانته كعلم مستقل. لكن كوري أدرك مبكرًا أن أسرار الحياة لا تُفهم إلا عبر التفاعلات الكيميائية الدقيقة داخل الخلايا.
ومن هنا بدأ اهتمامه بآليات التمثيل الغذائي (Metabolism)، وخصوصًا كيفية تعامل الجسم مع السكريات لإنتاج الطاقة.

الفصل الثالث: الهجرة وبداية الطريق في أمريكا

في عام 1922، غادر كارل وجيرتي كوري وطنهما إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بحثًا عن فرصٍ علمية أوسع.
كانت تلك المرحلة صعبة في بدايتها، إذ واجه الزوجان عقبات مادية وإدارية، خاصة أن المجتمع العلمي الأمريكي لم يكن معتادًا على استقبال زوجين يعملان معًا في البحث العلمي، وهو أمرٌ غير مألوف آنذاك.

بدأ كوري عمله في جامعة ولاية نيويورك في بوفالو (University at Buffalo)، حيث واصل مع زوجته أبحاثهما في مجال التمثيل الغذائي للسكر.
رغم التحديات، نجحا في بناء مختبرٍ صغير بموارد محدودة، لكن بعزيمةٍ لا حدود لها.
في تلك السنوات، كان العلم بالنسبة لكارل كوري مغامرة وجودية أكثر منه مهنة، فكل تجربة كانت تقوده خطوةً نحو فهم ما لم يُفهم بعد.

الفصل الرابع: الانطلاقة العلمية واكتشاف دورة كوري

في ثلاثينيات القرن العشرين، بدأ كوري وزوجته سلسلة من التجارب الدقيقة التي استهدفت فهم كيفية تحلل الجليكوجين (Glycogen)، وهو الشكل الذي يُخزن به السكر في الكبد والعضلات.

وبعد سنواتٍ من العمل المضني، توصلا إلى آلية بيولوجية تُعرف اليوم باسم “دورة كوري” (Cori Cycle)، وهي العملية التي يحوّل فيها الجسم الجلوكوز إلى طاقة في العضلات، ثم يعيد الكبد تدوير نواتجها إلى جلوكوز جديد.

كان هذا الاكتشاف ثوريًا بكل المقاييس، إذ فتح الباب أمام فهم الأمراض المرتبطة باضطرابات التمثيل الغذائي، مثل السكري (Diabetes Mellitus).
لم يكن الاكتشاف مجرد كشفٍ علمي، بل نقطة تحول في الطب الحيوي الحديث.

كتب كارل كوري في ملاحظاته العلمية آنذاك:

“كل جزيء سكر يدخل الجسم، يروي قصة الحياة ذاتها، قصة التحول من المادة إلى الطاقة، ومن الطاقة إلى وعيٍ بالحياة.”

هذا الشغف جعل أبحاث كوري وزوجته مرجعًا أساسياً في الكيمياء الحيوية، وأساسًا لتطور علوم الغدد الصماء والتمثيل الغذائي.

الفصل الخامس: جائزة نوبل في الطب (1947)

عام 1947 كان عامًا تاريخيًا في حياة كارل وجيرتي كوري. ففي ذلك العام، أُعلن عن فوزهما بـ جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا، بالاشتراك مع العالم الأرجنتيني برناردو هوساي (Bernardo Houssay).
جاء التكريم تقديرًا لـ “اكتشافهم الآليات التي يتم بها تحلل الجليكوجين وإعادة تركيبه في الجسم كمصدر للطاقة.”

كانت جيرتي كوري أول امرأة في التاريخ تحصل على جائزة نوبل في الطب، وكان هذا بحد ذاته انتصارًا إنسانيًا إلى جانب كونه إنجازًا علميًا.
أما كارل كوري، فقد قال أثناء استلام الجائزة في استوكهولم:

“لا يوجد علم بلا حب، ولا حب بلا فهم. نحن نبحث في المختبر لا لنسيطر على الطبيعة، بل لنتعلم كيف نحيا بتناغمٍ معها.”

هذا التصريح يلخّص فلسفة كوري في العلم: أن المعرفة ليست هدفًا في ذاتها، بل وسيلة لفهم الجمال الداخلي للحياة.

الفصل السادس: مسيرته الأكاديمية وتكريمه العلمي

بعد نيله جائزة نوبل، استمر كوري في العمل الأكاديمي في جامعة واشنطن في سانت لويس، حيث كان يرأس قسم الكيمياء الحيوية.
تحت إشرافه، تخرج العديد من الطلاب والعلماء الذين أصبحوا فيما بعد من كبار الباحثين في مجالات الطب الحيوي.
كما شغل منصب أستاذٍ زائر في جامعة هارفارد وعدة جامعات أوروبية، وكان له دور بارز في تطوير المناهج الحديثة لعلم الكيمياء الحيوية.

في عام 2004، وبعد وفاته بسنوات، تم تكريمه رسميًا بلقب “المعلم الكيميائي التاريخي الوطني” (National Historic Chemical Landmark) في الولايات المتحدة، تقديرًا لإسهاماته الجوهرية في فهم عمليات التمثيل الغذائي للكربوهيدرات، وتأثيره الدائم في علم الأحياء الخلوي.

الفصل السابع: التحديات والمواقف الإنسانية

لم تكن حياة كوري خالية من الصعوبات. فقد واجه تمييزًا أكاديميًا في بداياته بسبب عمله المشترك مع زوجته، إذ كانت المؤسسات العلمية آنذاك تضع قيودًا على عمل النساء.
لكن إيمانهما العميق بالشراكة الفكرية جعلهما يتجاوزان كل العقبات.

عندما مرضت جيرتي كوري في الخمسينيات بمرضٍ عضال، كان كارل إلى جانبها في كل لحظة، ولم يتوقف عن دعمها حتى وفاتها عام 1957.
كان يقول عنها دائمًا:

“لقد كانت الضوء الذي أنار كل تجربة أجريتها.”

هذا الجانب الإنساني العميق جعل من كوري رمزًا للعالم المخلص، لا لعلمه فحسب، بل لإنسانيته أيضًا.

الفصل الثامن: الإرث العلمي والتأثير المستمر

إن إرث كارل فرديناند كوري لا يُقاس فقط بالجوائز أو الأبحاث المنشورة، بل بتأثيره العميق على مسار العلم الحديث.
فأعماله شكّلت الأساس لفهم الأمراض الاستقلابية، وأسهمت في تطوير العلاجات الدوائية للسكري وأمراض الكبد والعضلات.

حتى اليوم، تُدرَّس دورة كوري (Cori Cycle) في الجامعات حول العالم كأحد أهم المفاهيم في الكيمياء الحيوية.
كما أن منهجه في البحث العلمي، القائم على التحليل الدقيق والاحترام العميق للعلم كقيمة إنسانية، أصبح نموذجًا يُحتذى به في الأوساط الأكاديمية.

إنه عالمٌ أثبت أن الاكتشاف العلمي يمكن أن يكون عملًا أخلاقيًا وجماليًا في الوقت نفسه، يجمع بين العقل والقلب.

الفصل التاسع: الجانب الإنساني والشخصي

على الرغم من شهرته العالمية، كان كارل كوري إنسانًا بسيطًا متواضعًا.
لم يكن يسعى وراء المجد الشخصي، بل كان يرى أن “المعرفة تُفقد معناها إن لم تُستخدم في خدمة الإنسان”.
كان يدعم الطلاب الشباب، ويمنحهم الحرية في التفكير والبحث، مؤمنًا بأن الجيل القادم هو الامتداد الطبيعي للعلم.

خارج المختبر، كان يحب الطبيعة والموسيقى، ويؤمن أن الانسجام بين العلم والفن هو ما يجعل الإنسان متوازنًا.
كتب في مذكراته:

“العلم مثل الموسيقى، لا يكتمل إلا حين يُعزف بشغفٍ صادق.”

الفصل العاشر: الخاتمة – الدرس الذي تركه للعالم

توفي كارل فرديناند كوري في 20 أكتوبر عام 1984، بعد حياةٍ حافلة بالعطاء والاكتشاف.
رحل الجسد، لكن النور الذي أشعله في مختبراته ما زال يتوهج في عقول العلماء والباحثين حول العالم.

لقد علّمنا كوري أن العلم ليس غايةً نصل إليها، بل طريقًا نكتشف فيه أنفسنا من جديد.
وأن الشغف بالمعرفة هو أسمى أشكال الحب الإنساني، لأنه يربطنا بما هو أعمق من المادة: بطاقة الحياة نفسها.

حين نتأمل إرثه العلمي والإنساني، ندرك أن “كارل كوري” لم يكن مجرد عالمٍ في الكيمياء الحيوية، بل رسولًا من رسل النور في تاريخ الإنسانية، سعى إلى كشف سر الطاقة التي تحركنا، لا ليقيسها فقط، بل ليُعيد تعريف معناها في وجودنا كله.

 

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى