كما في القاموس: رحلة في البحث عن المعنى بين اللغة والوجود

المقدمة
اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي نافذة على الفكر ومرآة للثقافة ووسيلة لفهم الذات والآخر. من هنا يبرز كتاب “كما في القاموس” للمؤلف ألفريد سانت، الصادر عن دار آفاق للنشر والتوزيع سنة 2022، كأحد الأعمال التي تحاول أن تتعامل مع اللغة لا باعتبارها مجموعة من المفردات الميتة، وإنما ككائن حي يتنفس داخل النصوص والأذهان والمجتمعات.
في هذا الكتاب، يضعنا سانت أمام أسئلة جوهرية: ماذا تعني الكلمات عندما نستخدمها؟ كيف تتحول من مجرد رموز في القاموس إلى معانٍ نابضة بالحياة في الواقع؟ وهل يمكننا أن نحتكم إلى القاموس كمرجع مطلق للمعنى، أم أن القاموس ذاته محدود أمام سياقات الإنسان؟
بهذا المنطلق، فإن “كما في القاموس” ليس مجرد كتاب لغوي، بل هو مشروع فكري وفلسفي يعالج العلاقة بين اللغة والمعنى والوعي الإنساني. إنه كتاب يضع القارئ في مواجهة نفسه، ويدعوه إلى التفكير في طبيعة اللغة التي يستخدمها يوميًا دون أن ينتبه إلى عمقها.
المؤلف: ألفريد سانت ورؤية خاصة للعالم
يُعدّ ألفريد سانت من الكتاب الذين ينتمون إلى المدرسة التي ترى في اللغة أداة وجودية تتجاوز حدود القواعد. نشأ في بيئة متعددة الثقافات واللغات، ما جعله يُدرك منذ وقت مبكر أن الكلمة ليست هي نفسها في كل مكان، وأن معناها يختلف باختلاف من يستخدمها، وفي أي سياق تُقال.
سانت، بكتاباته ومشاريعه الفكرية، حاول أن يفتح مجالاً للحوار بين اللغة كأداة للتعبير واللغة كأداة للفهم الفلسفي. فهو لا يتعامل مع الكلمات كما يفعل المعجميون، بل يتعامل معها كما يتعامل الفيلسوف مع الأفكار أو كما يتعامل الشاعر مع الصور. ولهذا، جاء كتابه “كما في القاموس” ليؤكد على أن المعنى لا ينغلق في القاموس، بل ينفتح على الحياة.
بنية الكتاب وفكرته العامة
الكتاب لا يتخذ شكلاً تقليديًا قائمًا على فصول جامدة، بل يُشبه رحلة فكرية متدرجة؛ تبدأ من الكلمات في صورتها الأولية، ثم تنتقل إلى كيفية استخدامنا لها في الحياة اليومية، لتصل أخيرًا إلى محاولة فهم الدور الذي تلعبه في صياغة وعينا بالعالم.
الفكرة المحورية في الكتاب تقوم على التساؤل عن موثوقية القاموس كمصدر للمعنى. فالقاموس يقدّم تعريفًا “جامدًا”، لكن الإنسان عندما يستخدم الكلمة يضعها في إطار من المشاعر، والظروف، والخبرات، ما يجعلها مختلفة عن معناها المكتوب.
فعلى سبيل المثال، كلمة مثل “الوطن” في القاموس قد تعني “المكان الذي يُقيم فيه الإنسان”، لكن في وجدان الفرد تعني الحنين، الانتماء، الذكريات، وقد تعني في لحظة معينة الحزن أو الفقد. وهنا يظهر التوتر بين المعنى القاموسي والمعنى الوجودي.
بين اللغة والمعنى: حوار لا ينتهي
يرى ألفريد سانت أن اللغة ليست أداة “شفافة”، بل هي وسيط يضيف من ذاته على المعنى. فعندما نقول كلمة “حب” أو “موت” أو “حرية”، فإننا لا نقول فقط ما في القاموس، بل نقول ما في قلوبنا وتجاربنا وثقافاتنا.
ويشبّه الكاتب القاموس بالخارطة: فهو يرسم الملامح الكبرى، لكنه لا يصف تفاصيل الطريق، ولا العواطف التي ترافق السير فيه. ولذلك، فاللغة الحية أبعد ما تكون عن التعريفات الجامدة، إنها أشبه بمسرح تتحرك عليه الكلمات لتأخذ أشكالاً ومعاني جديدة.
البعد الفلسفي في الكتاب
لا يكتفي “كما في القاموس” بتحليل اللغة من زاوية لغوية، بل يدخل في عمق فلسفي. فالكتاب يناقش كيف تُحدّد الكلمات طريقة رؤيتنا للواقع. فإذا كان القاموس يضع الكلمات في إطار محدد، فإن الوعي الإنساني يعيد صياغتها بحسب التجربة.
ويتقاطع سانت هنا مع مفكرين مثل فيتغنشتاين الذي رأى أن “معنى الكلمة هو استعمالها”، وهايدغر الذي اعتبر أن اللغة “بيت الوجود”. لكن سانت يذهب أبعد من ذلك، فهو يرى أن القاموس يعكس رغبة الإنسان في السيطرة على اللغة، بينما الواقع يُثبت أن اللغة دائمًا تفلت من قبضة القاموس.
أمثلة تحليلية: الكلمات بين القاموس والحياة
في الكتاب، يقدّم المؤلف العديد من الأمثلة التي توضّح الفرق بين ما هو مدوّن في القاموس وما هو مُعاش في الحياة اليومية.
- كلمة “الحرية”: في القاموس تعني “التحرر من القيود”، لكن في حياة الشعوب قد تعني الكفاح السياسي، أو الحرية الفردية، أو حتى رفض القوانين.
- كلمة “الأم”: في القاموس “الوالدة التي أنجبت الابن”، لكن في وجدان الناس تعني الحنان، التضحية، المأوى، وأحيانًا الغياب أو الفقد.
- كلمة “الموت”: في القاموس “انقطاع الحياة”، أما في التجربة الإنسانية فهو الحزن والفقد، وأحيانًا معنى جديد للوجود.
بهذه الأمثلة يبين سانت أن القاموس يعطينا “الحد الأدنى” للمعنى، بينما الإنسان يضيف إليه أبعاده الخاصة.
البعد الثقافي والاجتماعي
الكتاب لا يقف عند حدود الفلسفة الفردية، بل يتناول كيف تتأثر الكلمات بالثقافات المختلفة. فالكلمة الواحدة قد تحمل معاني متباينة من مجتمع لآخر. كلمة مثل “الشرف” أو “الكرامة” أو “السعادة” قد تُفهم بطرق مختلفة باختلاف السياقات.
وهنا، يربط سانت بين اللغة والهوية، مؤكّدًا أن فهمنا لأنفسنا مرتبط بفهمنا للغة التي نتداولها. فاللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، بل هي وسيلة لتحديد من نحن.
أثر الكتاب وأهميته
منذ صدوره، لاقى “كما في القاموس” اهتمامًا من القرّاء والباحثين، لأنه يطرح سؤالاً جديدًا قديمًا: هل القاموس مرجع نهائي للمعنى، أم مجرد بداية لرحلة البحث عنه؟
الكتاب يفتح الباب أمام التفكير النقدي في علاقتنا بالكلمات، ويجعلنا أكثر وعيًا بطريقة استخدامنا لها. وهو بذلك لا يخاطب اللغويين فقط، بل يخاطب القارئ العادي، الشاعر، الفيلسوف، وحتى المتحدث اليومي الذي يود أن يعرف: هل ما أقوله يعني ما أريد قوله حقًا؟
الخاتمة
في نهاية المطاف، يمكن القول إن كتاب “كما في القاموس” هو عمل يتجاوز القاموس ذاته. إنه رحلة فلسفية وثقافية في عالم الكلمات، تُذكّرنا بأن اللغة ليست أداة محايدة، بل هي كيان يشاركنا تشكيل حياتنا ومعارفنا ومشاعرنا.
الكتاب يدعونا إلى أن نكون أكثر وعيًا بالكلمات التي نستخدمها، وألا نكتفي بما يقوله القاموس، بل أن نضيف إليه تجاربنا الخاصة، وأن ندرك أن اللغة ليست حبيسة الورق، بل هي نهر متجدد يتدفق بالمعاني.
إنه كتاب يليق بعصر يعجّ بالكلمات، لكنه يفتقر إلى الوعي بمعانيها. لذلك، فإن “كما في القاموس” لا يقدّم إجابات جاهزة، بل يزرع في القارئ أسئلة تبقى مفتوحة: كيف نفهم أنفسنا من خلال الكلمات؟ وهل يمكن أن يكون القاموس نهاية المطاف، أم مجرد بداية الطريق؟
لمعرفة المزيد: كما في القاموس: رحلة في البحث عن المعنى بين اللغة والوجود