سير

كورناي هايمانس: رائد فيسيولوجيا التنفس وأسرار الضغط الدموي

 النشأة والتكوين

في أحد أحياء بلجيكا الهادئة، وُلد كورناي هايمانس في 28 مارس 1892 بمدينة غنت، لأسرة متوسطة الحال، لكنها مشبعة بالعلم والشغف بالطب. كان والده البروفيسور جان فرانسوا هايمانس، أحد أبرز الأساتذة في علم العقاقير بجامعة غنت، فكان المنزل أشبه بمختبرٍ صغير، يمزج بين حب الاستكشاف والتجربة العلمية. لم يكن مستغربًا أن يتأثر الابن بذلك الجو الأكاديمي الصارم، ويبدأ رحلته في عالم البيولوجيا والطب بشغفٍ مبكر.

منذ طفولته، أبدى كورناي اهتمامًا شديدًا بكيفية عمل الجسم البشري، وخصوصًا التنفس والدورة الدموية. كان يُكثر من طرح الأسئلة عن سبب تسارع دقات القلب عند الخوف، أو لماذا نشعر بالدوار عند نقص الهواء، وهي أسئلة بدت بسيطة، لكنها كانت نواة لواحدة من أعظم مسيراته العلمية.

 التعليم والتكوين الأكاديمي

بعد اجتيازه مراحل التعليم الثانوي، التحق هايمانس بجامعة غنت، حيث درس الطب. خلال سنواته الجامعية، أبدى نبوغًا ملحوظًا، خصوصًا في مادة الفيزيولوجيا. لم يكن مجرد طالب متفوق، بل كان باحثًا في طور التكوين. سافر إلى عدة جامعات مرموقة، منها لندن، باريس، وزيورخ، ليُثري معارفه ويكتسب تجارب متعددة.

في عام 1920، حصل على الدكتوراه في الطب، وكان موضوع أطروحته يدور حول التنظيم العصبي لوظائف القلب والتنفس، وهو ما سيصبح لاحقًا محورًا رئيسيًا في إنجازاته العلمية.

 بداية المسيرة العلمية

عاد هايمانس إلى بلده الأم بعد الحرب العالمية الأولى، ليبدأ مسيرته كأستاذ في علم الأدوية والفيزيولوجيا في جامعة غنت. في وقتٍ كانت فيه الفيزيولوجيا لا تزال تحبو لفهم آليات التحكم في ضغط الدم والتنفس، قرر هايمانس أن يُحدث ثورة في هذا المجال.

بدأ بإجراء تجاربه على الحيوانات المخبرية، خاصة الكلاب، حيث استخدم أنابيب دقيقة لقياس التغيرات في التنفس والضغط الدموي عند إثارة أو تثبيط أعصاب محددة. كانت تجاربه دقيقة، منهجية، وصادمة للعديد من العلماء في وقتها.

 الاكتشاف الأعظم: آلية تنظيم التنفس وضغط الدم

أشهر إنجازات كورناي هايمانس تمثل في اكتشافه دور الجسم السباتي (Carotid Body) والجسم القوسي في تنظيم التنفس والضغط الدموي. أوضح أن هذه الأجسام تحتوي على مستقبلات حسية دقيقة تستشعر نسبة الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون في الدم، وتنقل المعلومات عبر العصب القحفي إلى الدماغ لتنظيم سرعة التنفس وضغط الدم.

لم يكن هذا الاكتشاف مجرد سبق علمي، بل فتح آفاقًا لفهم أمراض مزمنة مثل ارتفاع الضغط، فشل التنفس، واضطرابات الأوكسجة في الجسم.

في عام 1938، نال كورناي هايمانس جائزة نوبل في الطب أو الفيسيولوجيا “لاكتشافه آلية تنظيم التنفس عبر المستقبلات الكيميائية في الجسم السباتي”، ليكون بذلك أحد أعمدة الفيزيولوجيا الحديثة.

 طريق محفوف بالتحديات

رغم نبوغه وتقديره العالمي، لم يكن طريق هايمانس سهلًا. فقد واجه انتقادات علمية من بعض الأوساط التي رأت أن تجاربه على الحيوانات قد تكون غير كافية لتفسير آليات الإنسان. كما تعرّض مختبره لدمار جزئي إبان الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى فقدان الكثير من ملاحظاته وتجهيزاته.

لكن هايمانس لم يستسلم، بل أعاد بناء مختبره، واستمر في الإشراف على البحوث، وألهم أجيالًا من العلماء في بلجيكا وأوروبا. لقد تحوّل مختبره في غنت إلى مركز دولي للأبحاث الفيزيولوجية.

 إنجازات علمية إضافية

إضافةً إلى اكتشافه الأشهر، ساهم كورناي هايمانس في تطوير فهم أعمق لـ:

  • التحكم العصبي في الدورة الدموية
  • استجابات المستقبلات الكيميائية في الدماغ
  • تأثير العقاقير على تنظيم القلب والتنفس
  • آليات التكيف مع نقص الأوكسجين (Hypoxia)

كما نشر أكثر من 200 بحث علمي، أغلبها في مجلات مرموقة مثل The Journal of Physiology وNature، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 10 لغات.

 الجدول الزمني لمسيرته

العامالحدث
1892ولادته في غنت، بلجيكا
1920حصوله على الدكتوراه في الطب
1925تعيينه أستاذًا في جامعة غنت
1938فوزه بجائزة نوبل
1945إعادة بناء مختبره بعد الحرب
1963وفاته في غنت عن عمر يناهز 71 عامًا

 الأثر العالمي

يُعد كورناي هايمانس اليوم رمزًا في الطب الفيزيولوجي. فبفضله، تطورت الأجهزة الطبية لمراقبة التنفس وضغط الدم، وتمكّن الأطباء من تطوير علاجات لمرضى الربو، الفشل التنفسي، وأمراض القلب.

يُدرّس اسمه اليوم في جامعات الطب حول العالم، وتم إطلاق اسمه على عدة مؤسسات طبية ومراكز بحثية في بلجيكا، تكريمًا لإسهاماته العلمية الخالدة.

 الجانب الإنساني

رغم انشغاله بالأبحاث، كان هايمانس شخصية إنسانية بكل معنى الكلمة. وُصف بأنه متواضع، كريم، ومخلص لطلابه. كان يُشرف شخصيًا على أبحاث طلاب الدكتوراه، ويؤمن بأن “العلم لا قيمة له ما لم يُنقذ الأرواح”.

كما عُرف عنه دعمه للمؤسسات الصحية في بلجيكا، وساهم في تطوير برامج تدريب للأطباء في فترة ما بعد الحرب.

الجوائز والتكريمات

  • جائزة نوبل في الطب (1938)
  • وسام الشرف البلجيكي
  • عضوية الأكاديمية الملكية البلجيكية للعلوم
  • دكتوراه فخرية من جامعات باريس، لندن، وشيكاغو

 خاتمة: إرثٌ لا يُنسى

ترك كورناي هايمانس بصمة لا تُمحى في تاريخ الطب والفيزيولوجيا. فبينما كان يبحث في أعماق الأعصاب ومستقبلات الأوكسجين، كان يزرع في العقول روح التساؤل والعلم. لم يكن مجرد عالم، بل كان رائدًا، ومعلمًا، وإنسانًا.

لقد علّمنا أن التنفس ليس مجرد فعل لا إرادي، بل عملية معقدة تقف وراءها شبكات من الأعصاب والمستقبلات، يمكن فهمها، تحليلها، والتدخل فيها لإنقاذ الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى