كورنيليس هايمانس: عبقري الفسيولوجيا الذي أنصت لهمس الأعصاب

في عالم العلم، ثمة أسماء تلمع لا بفعل شهرتها فقط، بل بما أحدثته من تحوّل جذري في فهم الإنسان لنفسه. من بين هؤلاء العظماء، يبرز اسم الطبيب والعالم البلجيكي كورنيليس هايمانس (Corneille Heymans)، الذي ألهمت اكتشافاته العلماء لعقود، وأضاءت مساره جائزة نوبل التي تُوّج بها عام 1938. لكن خلف تلك الأرقام والجوائز، تختبئ قصة حياة ملهمة، جمعت بين العبقرية والتحديات، وبين المختبرات والإنسانية، ليخلد اسمه في سجلات التاريخ العلمي كواحد من رواد الفسيولوجيا العصبية.
البدايات: في كنف العلم والأسرة
وُلد كورنيليس هايمانس في 28 مارس عام 1892، في مدينة خنت (Ghent) البلجيكية. كان القدر قد نسج له بيئة مثالية للتعلم والاكتشاف؛ فوالده، جون فرانسوا هايمانس، كان أستاذًا بارزًا في علم الأدوية، مما جعل كورنيليس يتنفس أجواء البحث العلمي منذ نعومة أظفاره. نشأ في بيت يقدّس العلم، ويتعامل مع المختبرات كمساحات حياة، لا مجرد أماكن للعمل.
في سنٍ مبكرة، أظهر كورنيليس شغفًا استثنائيًا لفهم عمل الجسم البشري، لا سيما العلاقة بين القلب، الدماغ، والأعصاب. لم تكن الأسئلة الفسيولوجية ترويه، بل كانت تشعل فيه توقًا دائمًا لاكتشاف المزيد.
من مقاعد الدراسة إلى قلب المختبرات
التحق هايمانس بكلية الطب في جامعة غنت، وحصل على درجة الدكتوراه في الطب عام 1920. بعدها، توجّه إلى بريطانيا ثم فرنسا لتوسيع آفاقه العلمية، حيث عمل في مختبرات إدغار أدريان وإرنست ستارلينغ، وهما من أبرز علماء الفسيولوجيا في أوروبا آنذاك.
لكن رغم الفرص الخارجية، عاد هايمانس إلى وطنه ليواصل مسيرة والده كأستاذ في علم الفسيولوجيا والأدوية في جامعة غنت، الجامعة ذاتها التي ترعرع فيها. هناك، بدأ رحلته البحثية التي ستغيّر نظرة الطب إلى التواصل بين الأعضاء الحيوية.
الاكتشاف الحاسم: كيف يعرف الدماغ ما يجري في القلب؟
سؤال بسيط ظاهريًا، لكنه أربك العلماء طويلًا: كيف “يعرف” الدماغ ما يجري في القلب والرئتين؟
كان الاعتقاد السائد أن المعلومة تنتقل عبر الدم، لكن هايمانس رأى في الأمر ما هو أعمق.
في سلسلة من التجارب الذكية التي استخدم فيها كلابًا ذات أنظمة دموية منفصلة بين القلب والدماغ، استطاع أن يُثبت أن نقل المعلومات الحيوية يتم عبر الأعصاب وليس الدم. بعبارة أخرى، فإن مراكز تنظيم التنفس وضغط الدم لا “تشعر” بالتغيّرات الكيميائية من خلال الدم مباشرة، بل تعتمد على مستقبلات حسية موجودة في الشرايين، تنقل المعلومات إلى الدماغ عبر الأعصاب.
هذا الاكتشاف، الذي بدا نظريًا معقدًا، كان له أثر بالغ على فهم التحكم العصبي في التنفس والدورة الدموية، وأرشد الأطباء لاحقًا لتطوير أساليب علاجية للأمراض القلبية والدموية.
جائزة نوبل: تتويجٌ للعبقرية
عام 1938، منحت الأكاديمية الملكية السويدية هايمانس جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا “لاكتشافه دور المستقبلات الحسية في تنظيم التنفس والدورة الدموية”. كانت الجائزة تتويجًا لعقدين من التجريب المتقن والتفكير النقدي، وأعادت تسليط الضوء على العلاقة الدقيقة بين الكيمياء الحيوية والأعصاب.
لم تكن نوبل بالنسبة لهايمانس غاية، بل محطة عززت مسؤوليته تجاه العالم العلمي. وقد قال ذات مرة:
“العلم ليس ترفًا، بل التزامٌ لفهم الحياة، وحماية الإنسان من هشاشته البيولوجية.”
إرثه العلمي: فتح أبوابًا جديدة في علم الأعصاب
لم يتوقف هايمانس عند اكتشافاته الشهيرة، بل واصل عمله في جامعة غنت كأستاذ ورئيس قسم، حيث أشرف على عشرات الطلاب، وشارك في مئات المؤتمرات. كان شغوفًا بالتعليم، يشرح لطلبته بأمثلة بسيطة آليات فسيولوجية معقدة، ويحثّهم على التفكير النقدي لا الحفظ.
وقد ألهمت أفكاره مدارس علمية متعاقبة في أوروبا وأمريكا، وأسست لفهم أعمق لما يُعرف اليوم بـالتنظيم العصبي الذاتي (Autonomic Regulation)، أحد أهم فروع علم الأعصاب الحديث.
في قلب الإنسان: مَن كان كورنيليس هايمانس خارج المختبر؟
رغم عظمته العلمية، كان هايمانس شخصًا متواضعًا، يحب الموسيقى، ويقضي ساعات مع زوجته وأطفاله في الطبيعة. كان يؤمن أن العالم الجيد لا بد أن يكون إنسانًا أولًا، وحرص دائمًا على أن تبقى أبحاثه في خدمة البشر لا ضدهم.
في سيرته الشخصية، يُذكر عنه أنه كان يرفض استغلال الحيوانات في التجارب دون مبرر أخلاقي، وكان يُصر على أن تكون لكل تجربة هدف واضح مرتبط بصحة الإنسان.
تحديات لم تروها الجوائز
رغم نيله أرفع الجوائز، واجه هايمانس انتقادات من بعض العلماء المحافظين الذين تمسكوا بنظريات قديمة حول نقل الإشارات في الجسم. كما اضطر خلال الحرب العالمية الثانية إلى حماية أبحاثه من الدمار، ورفض التعاون مع سلطات الاحتلال التي حاولت استغلال مختبراته لأغراض غير إنسانية.
كان صراعه الحقيقي مع البيروقراطية العلمية التي كانت في بعض الأحيان تُعطّل البحث الحر. لكنه قاوم كل ذلك بإصراره وأخلاقه العالية، دون أن يتنازل عن نزاهته.
الوداع الأخير: لحظة غياب الجسد وبقاء الأثر
توفي كورنيليس هايمانس في 18 يوليو عام 1968، عن عمر ناهز 76 عامًا، بعد أن ترك خلفه إرثًا علميًا لا يُقدّر بثمن. شيّعته جامعة غنت بكل الإجلال، وتحوّلت مكتبه ومختبره إلى جزء من متحف علمي يُزار حتى اليوم.
ورغم مرور أكثر من نصف قرن على وفاته، لا تزال كتبه وأبحاثه تُدرّس في كليات الطب، ويُستشهد بها في كل نقاش حول التواصل العصبي والتنظيم الحيوي للجسم.
خاتمة: عبقرية العلم وروح الإنسان
قصة كورنيليس هايمانس ليست فقط قصة عالم فاز بنوبل، بل حكاية إنسان آمن بأن المعرفة يجب أن تكون جسراً بين العقل والقلب، بين المختبر والضمير. في زمن كانت فيه بعض الاكتشافات تُستخدم في الحروب، اختار هايمانس أن يسخّر علمه في خدمة الحياة.
لقد أنصت لهمس الأعصاب، وعلّمنا كيف ننصت لصوت الإنسان.