كتب

كيف تنصت لأبنائك كي يتحدثوا لك؟: بوابة العبور نحو قلوب الأبناء

في زحام الحياة اليومية، حين تتشابك المهام وتتسارع اللحظات، نغفل أحيانًا عن الأهم: ذلك الصمت الصغير في عيون أبنائنا، وتلك الكلمات التي لم تُنطق بعد. ربما لا يحتاج الأطفال إلى إجابات جاهزة، بقدر حاجتهم إلى أذُن تُصغي، وقلب يُنصت.

من هنا، تنطلق بيكي هارلينج في كتابها “كيف تنصت لأبنائك كي يتحدثوا لك؟: عمّق تواصلك وعزز ثقتهم” في رحلة تربوية إنسانية مليئة بالدفء والبصيرة، لتمنحنا مفاتيح الإنصات الحقيقي، وتفتح لنا نوافذ إلى عالم الأبناء الداخلي، حيث تنبت الثقة، وتنمو العلاقة.

 

صوت لا يُسمع… ورسالة تُهدر

تحكي المؤلفة في مقدمة الكتاب موقفًا شخصيًا مؤثرًا: كانت تجلس مع ابنتها المراهقة على مائدة العشاء، تحاول أن تستفسر منها عن شعورها، فتنهال عليها بالنصائح، معتقدة أنها تُحسن صنعا. لكنها لاحظت انسحاب ابنتها التدريجي من الحوار، وانغلاقها على نفسها. عندها فقط أدركت هارلينج أن الحديث ليس هو الوسيلة الأفضل دائمًا، بل الإصغاء. الإصغاء الذي يمنح الطفل الأمان ليتكلم، لا ليُحاكم أو يُوجَّه.
هنا تبرز الفكرة المحورية في الكتاب: الإنصات أداة تواصل لا تقل أهمية عن الكلام، بل قد تفوقه أثرًا في تشكيل العلاقة بين الآباء والأبناء.

الإنصات ليس صمتًا فقط

في الفصل الأول، تؤكد هارلينج أن “الإنصات لا يعني مجرد التوقف عن الحديث”، بل يتطلب حضورًا عاطفيًا كاملاً. الطفل، سواء كان في الخامسة أو الخامسة عشرة، يمتلك حساسية فائقة لتمييز من ينصت له حقًا ومن يتظاهر بالاهتمام.
تُقدِّم المؤلفة هنا ستة مبادئ أساسية للإنصات الفعّال، من أهمها:

  • انظر إلى عيني طفلك حين يتكلم.
  • لا تقاطعه ولو كنت تعرف ما سيقوله.
  • لا تُسرع في تقديم النصيحة، فربما هو فقط بحاجة إلى أن يُسمَع.

كيف تبني مساحة آمنة للكلام؟

من أهم ما يميّز الكتاب هو أنه لا يكتفي بالتنظير، بل يُقدّم أدوات عملية.
في الفصول التالية، تشرح هارلينج كيف يمكن للوالدين أن يهيئوا بيئة تُشجّع الطفل على التعبير، لا على الكتمان.
تُركّز على مفهوم “المساحة الآمنة”، وهي البيئة النفسية التي يشعر فيها الطفل أنه مقبول كما هو، وأن حديثه لن يُستخفّ به أو يُدان.

هنا بعض الإرشادات العملية التي توصي بها:

  • ابدأ الحديث من اهتمامات الطفل، لا من مخاوفك كأب أو أم.
  • اسأل أسئلة مفتوحة مثل: “ما الذي أزعجك اليوم؟” بدلاً من “هل أزعجك أحد؟”.
  • احترم الصمت، أحيانًا لا يعني العناد، بل الحيرة أو الخوف.

الإنصات في مراحل العمر المختلفة

في فصول متقدمة، تأخذنا المؤلفة في جولة عبر مختلف المراحل العمرية:

  • مع الطفل الصغير، تقول إن الإنصات هو لعبة تواصل، يتعلم فيها الطفل أن مشاعره مقبولة.
  • مع المراهق، يصبح الإنصات وسيلة لإثبات الاستقلالية واحترام الذات.
  • ومع الشاب في سن الجامعة، يتحول الإنصات إلى علاقة ندّية تُبنى على الثقة، لا على السيطرة.

في كل مرحلة، تُقدّم بيكي نماذج للأسئلة المفيدة، وكيفية تقبّل العواطف دون تهويل أو تقليل من شأنها.

التحديات التي تعيق الإنصات

تعترف المؤلفة أن الإنصات الحقيقي عمل صعب، خصوصًا في ظل الضغط والإرهاق والاختلاف في وجهات النظر.
تُشير إلى أبرز المعوّقات، مثل:

  • الانشغال الدائم، حيث يرى الطفل أن وقته غير ذي قيمة.
  • الاندفاع للحلول قبل أن يُكتمل سرد الطفل لمشكلته.
  • إسقاط التجارب الشخصية على الأبناء، مما يجعلهم يشعرون بعدم الفهم.

وتقترح هنا ما تسميه بـ”قاعدة التوقف”:

توقف عن كل ما تفعله حين يتحدث طفلك، فذلك وحده يكفي ليشعر بالأمان.

الاقتراب من القلب… لا من السلوك فقط

بيكي هارلينج تذكّر الآباء مرارًا بأن الهدف من الإنصات ليس تعديل السلوك، بل فهم الدافع خلفه.
فبدلاً من أن تسأل: “لماذا لم تذاكر؟”، جرب أن تسأل: “هل هناك ما يشغلك أو يقلقك؟”.
بهذه الطريقة، نصل إلى المشاعر، لا فقط إلى النتائج.

 

علاقة تقوم على الثقة… لا الخوف

ما يميّز الكتاب أيضًا أنه يركّز على بناء الثقة كأساس دائم للعلاقة. تقول المؤلفة:

إذا شعر الطفل أن والديه سيستخدمان ما يقوله ضده لاحقًا، فلن يبوح بشيء أبدًا.

ومن هنا، فإن احترام الخصوصية، وعدم السخرية من المشاعر، والتعامل مع الأسرار باحترام، كلها قواعد ذهبية تجعل من الإنصات أداة تقرّب لا تفريق.

مواقف مؤثرة وتمارين عملية

الكتاب مليء بالقصص الواقعية التي تنقل القارئ إلى قلب الموقف، كما يُقدّم تمارين في نهاية كل فصل مثل:

  • “سجّل أكثر ثلاث جمل تستخدمها عند حديث ابنك. هل تعزز التواصل أم تغلقه؟”
  • “خصص 15 دقيقة يوميًا للإنصات فقط، دون إبداء رأي أو نقد.”
    هذه التمارين تُحوِّل الكتاب إلى دليل عملي، وليس مجرد قراءة نظرية.

كتاب لكل أب وأم… ولكل من يربّي

الجميل في هذا الكتاب أنه يخاطب كل من يربي، وليس فقط الوالدين. المعلمون، المستشارون، وحتى الأجداد.
الإنصات، كما ترى المؤلفة، ليس سلوكًا عابرًا، بل قيمة تربوية جوهرية، ووسيلة لبناء جيل واثق بنفسه، يشعر أنه مسموع ومفهوم.

خلاصة الكتاب: الإنصات يفتح أبواب القلوب

إنّ “كيف تنصت لأبنائك كي يتحدثوا لك؟” ليس مجرد دليل تربوي، بل هو دعوة لتغيير جذري في نمط التواصل بين الأهل وأبنائهم.
إنه تذكير بأن أبنائنا لا يحتاجون إلى آباء وأمهات مثاليين، بل إلى آباء وأمهات منصتين بصدق.
الكتاب لا يطلب منا أن نعرف كل الإجابات، بل فقط أن نكون مستعدين للإصغاء.
وفي زمن تكثر فيه الضوضاء، ربما يكون الإصغاء هو أعظم هدية نقدمها لأطفالنا.

 

 

لمعرفة المزيد: كيف تنصت لأبنائك كي يتحدثوا لك؟: بوابة العبور نحو قلوب الأبناء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى