كتب

لا سير بلا وقود: فن بناء علاقات صحية مع الأقرباء

 

مقدمة

في كثير من الأحيان، نمرّ في حياتنا بعلاقات مع الشريك أو مع الوالدين تحمل بين طيّاتها مشاعر نقص، فجوة، برودٍ عاطفي أو مسافاتٍ بين قلوبنا ومشاعرنا وبين أولئك الذين نحبّهم. نبحث عن الوصل، عن الحميمية، عن التفهّم، ولكننا نشعر بأن شيئًا ما يحول بيننا وبين تلك العلاقات المثالية التي نطمح لها.
كتاب Running on Empty No More للمؤلفة جونيس ويب، دكتورة في علم النفس، يُقدّم لنا إطارًا عميقًا وآليات عملية لفهم كيف يمكن أن يكون “العجز العاطفي في الطفولة” (Childhood Emotional Neglect أو CEN) هو الوقود المفقود الذي يعيق نمو علاقاتنا — سواء مع الشريك أو مع الوالدين أو حتى الأطفال.

في هذا المقال سنستعرض:

  1. مفهوم العجز العاطفي في الطفولة (CEN) كما تعرضه ويب.
  2. كيف يؤثر هذا العجز على العلاقات الحاضِرة مع الشريك، الوالدين، الأطفال.
  3. الاستراتيجيات التي تقدّمها المؤلفة لتعديل تلك العلاقات وإعادة ملء الوقود المفقود.
  4. تقييم نقدي وإمكانية التطبيق في ثقافتنا العربية.
  5. خلاصة توصيات عملية من الكتاب.

الفصل الأول: مفهوم العجز العاطفي في الطفولة (CEN)

ما هو العجز العاطفي في الطفولة؟

العجز العاطفي في الطفولة (Emotional Neglect) ليس الإيذاء الجسدي أو الغياب الفجائي، بل هو ما لم يُفعل — ما لم يُعطَ، وما لم يُلاحظ، ما لم يُعترف به. إنه الفشل المتكرر أو المزمن للوالدين — أو الأشخاص المكلفين بالرعاية — في التعرف على الاحتياجات العاطفية للطفل، أو عدم الاستجابة إليها بشكل منتظم ومُعتَدل.

وبالتالي، يُعلّم الطفل (بطريقة ضمنية) أن مشاعره لا تُعتبر مهمة، أو أن مشاركتها ستكون عبئًا أو خطأً. مع مرور الزمن، يكبر هذا الطفل وهو يحمل فجوة داخلية: الشعور بعدم الأهمية، أو أنه غير جدير، أو أنه لا يملك القدرة على الاعتماد على العواطف أو التواصل بها.

لماذا يُعتبر هذا “وقودًا مفقودًا” في العلاقات؟

السبب في تشبيه هذا الوقود المفقود هو أن العلاقات الصحية تنمو وتتقوّى عندما يُشارَك ويُستجاب للاحتياجات العاطفية المتبادلة. إذا كنت قد نشأت بلا تلقي “الاعتراف” العاطفي الكافي، قد تجد نفسك:

  • غير قادر على التعبير عن الاحتياجات والعواطف بوضوح.
  • خائفًا من أن تظهر ضعفك أو حاجتك فتُرفض أو تُهمل.
  • تجاهلت نفسك لفترة طويلة، فأصبحت “فارغًا” عاطفيًا (running on empty).
  • تكرّر أنماطًا سلبية في العلاقة دون فهم السبب.

كتاب ويب يقدّم هذا المفهوم كأساس ليس فقط للفهم النفسي الذاتي، بل للعمل على الشفاء والتجديد في العلاقات.

 

الفصل الثاني: تأثير العجز العاطفي على علاقة الشريك

عندما يدخل شخص يحمل أثرًا من العجز العاطفي إلى علاقة زوجية أو شراكة عاطفية، يواجه تحديات تُظهِر نفسها بطرق خفيّة وأحيانًا واضحة.

1. الصعوبة في التعبير عن الاحتياج

قد يشعر الشخص بأنه “لا يستحق” أن يطالب بالعاطفة أو الاهتمام، أو يخشى أن يُرفض إذا طالَب. لذا قد يلجأ إلى الصمت أو الانسحاب، بدلاً من التعبير الصادق.

2. المشاعر المختلطة: الغضب، الإحباط، العزلة

قد يشتعل الغضب فجأة أو الإحباط عندما لا يحصل على ما يحتاجه، لكن هذا الغضب غالبًا لا يُوجَّه مباشرة، بل يُعبَّر عنه بطرق غير مباشرة، أو يُكبت داخليًا، مما يولّد برودًا أو فجوات عاطفية في العلاقة.

3. التوقعات غير الواقعية أو المطالب المبالغ فيها

قد يطلب من الشريك أن “يقرأ أفكاره” أو “يفهمه تلقائيًا”، لأن الطفل في داخله لم يُعلَّم كيف يعبر أو يطلب. وعندما لا يحصل على هذا الفهم، يشعر بالإيذاء أو الخيانة العاطفية.

4. صعوبة في القرارات العاطفية والمخاطرة

حتى عندما تظهر فرصة للمزيد من الحميمية أو التواصل، قد يتراجع الشخص خوفًا من الألم أو الرفض، مما يبقي العلاقة عند سطحية أو توتر دائم.

5. التفاعل مع الطرف الآخر الذي قد يكون أيضًا متأثرًا

إذا كان الشريك أيضًا لديه تاريخ من العجز العاطفي أو الجروح العاطفية، فإن التفاعل بينهما قد يُعدّ حلقة مفرغة من الإحباط المتبادل، أو تقارب مؤقت وآلام دائمة.

الفصل الثالث: العلاقة مع الوالدين: الشقّ الذي يظل مفتوحًا

إذا كان العجز العاطفي في الطفولة هو الجذر، فإن العلاقة مع الوالدين هي من أهم ميادين معالجة هذا الجرح، أو استمراره.

1. التوقعات المؤجَّلة والحالة “ناضجة جدًا”

قد يشعر بعض البالغين بأنهم “ليسوا مستعدين” ليتحدثوا مع الوالدين عن جروحهم القديمة، أو يخشون أن المواجهة تكسر السلام الأخير أو العلاقة القائمة. ويب تناقش كيف أن بعض العائلات تكتفي بالسُمعة والسلوك الظاهري، مع أن الجرح ما زال يعكر المياه تحت السطح.

2. التحدث عن العاطفة مع الوالدين

واحدة من أصعب الفصول في الكتاب تتناول كيفية التحدث إلى الوالدين عن العجز العاطفي بطريقة تحفظ الكرامة وتفتح الباب للتفاهم. ويب تقدم أدوات للتواصل:

  • لغة “أنا” بدل الاتهام.
  • التعبير عن الاحتياج بدلاً من اللوم.
  • تقديم أمثلة ملموسة من الماضي، إن كان ذلك ممكنًا.
  • الاستعداد لأن لا يكون الوالدان قادرين على الاستجابة كما نأمل، والتعامل مع هذا الواقع بعقلية الشفاء حتى إذا لم يتغيّر الآخر كثيرًا.

3. التعامل مع الصراع والرفض

إذا رفض الوالدان أو لم يُبديا تفهمًا، لا بد من حماية النفس – سواء بوضع حدود عاطفية أو اتخاذ خطوات التباعد المؤقت أو طلب دعم من مختصين نفسيين.

4. فتح الطريق نحو الوالدين العاطفيين المحتملين

إذا تمكن الشخص من التقدّم بشفافيّة وصراحة، قد يُفتح أمام الوالدين فرصة لمعرفة الآثار التي تركها العجز العاطفي واستعادة بعض الجسور العاطفية المفقودة.

الفصل الرابع: أدوات ويب لإصلاح العلاقات

واحدة من أكثر فوائد هذا الكتاب هي أنه لا يكتفي بالتشخيص، بل يقدّم خطوات عملية يمكن البدء بها فورًا.

1. المفهوم: رؤية العلاقة من منظور CEN

أول خطوة هي فهم العلاقة من خلال عدسة العجز العاطفي— بمعنى رؤية لماذا تتكرر الأنماط السامة، وما الذي كان مفقودًا من البداية. هذا تغيير في النظرة، وليس في لوم الذات أو الآخر فحسب.

2. التدرّج في المخاطرة العاطفية

ويب توصي بأن التغيير لا يحدث دفعة واحدة، بل بخطوات صغيرة:

  • البدء بمشاركة بسيطة.
  • مراقبة رد الفعل.
  • بناء الثقة تدريجًا.
  • تعلّم التوقف عندما تسوء العلاقة، وإعادة التجربة عندما تكون الظروف مناسبة.

3. الجدل العاطفي ومعالجة الصدمات

في الحالات التي تكون فيها الجروح قديمة وعميقة، قد يكون من الضروري معالجة الألم العاطفي (غالبًا عبر الاستشارة النفسية أو العلاج). ويب تتناول بعض التمارين التي تساعد أصحاب العلاقات على مشاركة الحزن، الخوف، الغضب، الاعتذار، والغفران.

4. بناء العلاقة بوعي

هي لا علاقة تكميلية فقط، بل علاقة تعلّم فيها كل طرف كيف يستجيب لاحتياجات الآخر. ويب تقدّم اقتراحات عملية مثل:

  • استخدام “عبارات تواصل عاطفي” مهيّأة تُمكّن الشريكين من التعبير عن الاحتياج.
  • جدول زمني للتواصل العاطفي (وقت ثابت في الأسبوع لمشاركة الأحاسيس).
  • مراقبة “نقاط الجهل العاطفي” (سواء من الجانبين) ومحاولة استكشافها.
  • الاتفاق على “إعلان نوايا” مشترك لكيفية التعامل مع الخلافات العاطفية.

5. إعادة العلاقة مع الذات

قبل أي علاقة صحية مع الآخرين، يجب أن يكون هناك علاقة متينة بالذات: كيف أعترف بمشاعري؟ كيف أستجيب لاحتياجاتي؟ كيف أكون داعمًا لنفسي؟ ويب تقدّم تمارين لتعزيز الاعتبار الذاتي، الاهتمام الذاتي، والتحقق الداخلي.

الفصل الخامس: الترجمة إلى الواقع — تطبيق في بيئتنا العربية

إن كتاب ويب نُشر باللغة الإنجليزية في 2019 بعنوان “Running on Empty No More” ، وهو ليس بالضرورة موجود بإصدارٍ عربي واسع الانتشار حتى الآن (حسب معلوماتي). لكن الفكرة التي يهتمّ بها — أنها دعوة إلى “إعادة تعبئة علاقاتنا العاطفية المفقودة” — تلامس كثيرًا واقعًا اجتماعيًا وثقافيًا في المجتمعات العربية، حيث قد تكتنف العلاقات العاطفية أحيانًا الحذر أو التزام المسكوت عنه.

الفرص:

  1. كسر الصمت العاطفي
    الثقافة التي تشجّع الصمت والعفة العاطفية قد تشكّل حاجزًا أمام التعبير الصادق، لكن الكتاب يُحفّز القارئ ليبدأ الحديث.
  2. إعادة تقدير العلاقة بين الأبناء والوالدين
    في مجتمعات تُقدّر البرّ والاحترام، قد يُغفَل الجرح العاطفي وراء المظاهر. هذا الكتاب يقدّم فرصة لفهم أن الوفاء العاطفي لا يناقض البرّ، بل يعزّزه إذا توازى مع الاحترام.
  3. تطبيق أدوات التواصل بخجل محكم
    حتى إن بعض الممارسات قد تحتاج تعديلًا لتناسب الحساسية الثقافية، يمكن تبنّي المبادئ الأساسية (الانتباه، التعبير بلُطف، التدرّج).

التحديات:

  • رفض أحد الأطراف أو عدم الإيمان بالفكرة
    قد يواجه من يحاول التغيير مقاومة من الشريك أو الوالدين، وقد يُتهم بأنه “رُدِّي” أو “مبالغ”. هذا يتطلب صبرًا ودعمًا نفسيًّا.
  • محدودية الموارد النفسية أو الوصول إلى علاج مهني
    قد لا تكون العلاجات النفسية متاحة بسهولة في بعض المناطق، أو قد تكون مكلفة أو محاطة بالوصمة. لكن بعض الأدوات الذاتية التي يقترحها الكتاب يمكن أن تُمارس تدريجيًا حتى مع محدودية الموارد.
  • الحساسية العائلية والاجتماعية
    بعض العائلات قد ترفض نقاش المشاعر أو توجيه النقد حتى إن كان لطيفًا. هذا يفرض تدرّجًا ووعيًا في كيف (متى، وبأي لغة) تُفتح قنوات الحوار.

الفصل السادس: تقييم نقدي وملاحظات

نقاط القوة

  • إطار مفهومي قوي
    كتاب ويب يُقدّم رؤية مُتكاملة تربط بين ماضي الطفولة والعلاقات الراهنة، مما يساعد القرّاء على فهم أسباب تكرار الأنماط المزعجة.
  • أمثلة واقعية وممارسات عملية
    لا يكتفي بالطرح النظري، بل يضم قصصًا واقعية وأوراق عمل أدوات يمكن تطبيقها وتحويلها إلى تغييرات ملموسة في الحياة.
  • توازن بين الذات والعلاقة
    ويب لا تقتصر على أن يقول: “غيّر شريكك”، بل تشجّع أولًا على الشفاء الذاتي، ثم الانتقال إلى العلاقة. هذا يجنّب الكثير من السقوط في لوم الشريك أو الاعتماد الكامل عليه.

نقاط الضعف أو الحدود

  • محدودية الترجمة أو التأقلم الثقافي
    قد يصعب تطبيق بعض المفاهيم كما هي في بيئات تختلف في الحساسية العاطفية أو في العقائد الثقافية.
  • قد لا يكون الحل الشافي دائمًا
    إذا كان أحد الأطراف صلبًا أو غير مستعد للتغيير، فإن الأدوات قد لا تُوفّر المعجزة بمفردها، وقد يحتاج الأمر إلى دعم مهني إضافي.
  • الاعتماد على الذات قد يُرهِق
    بعض القرّاء قد يشعرون أن تعبّر أن التغيير يقع على عاتقهم وحدهم، مما قد يزيد الضغط إذا لم تُحقّق النتائج بسرعة.

الخاتمة: من “لا سِير بلا وقود” إلى سِير مفعم بالاتصال

كتاب Running on Empty No More للمؤلفة جونيس ويب هو دعوة قوية لفهم العلاقة بين ماضي الطفولة ومُعاناة الحاضر العاطفي، لكنه ليس دعوة للذنب، بل للأمل والعمل.
إذا اعتبرنا أن كل علاقة بحاجة إلى “وقود” — أي الاعتراف العاطفي، الانتباه، التعبير، الحماية المتبادلة — فإن هذا الكتاب يعمل كمرشد لإيجاد ذلك الوقود المفقود في داخلنا ومع من نحبّهم، بدل أن نبقى “نسير بلا وقود”.

من خلال فهم العجز العاطفي القديم، ومن ثم استخدام الأدوات التي تقدّمها ويب في تدرّج، يستطيع القارئ أن يبدأ رحلة تعديل العلاقة مع الشريك، ومع الوالدين، ومع الذات.
قد لا يكون التغيير سريعًا أو دائمًا بدونه جهد أو مقاومة، لكنه ممكن. وقد يكون الانتقال من “الجفا” إلى “الاتصال” من أهم الإنجازات التي يحققها الإنسان في حياته.

 

لمعرفة المزيد: لا سير بلا وقود: فن بناء علاقات صحية مع الأقرباء

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى