لماذا نتذكر؟: استكشاف أسرار الذاكرة من خلال كتاب تشاران رانجاناث

تعد الذاكرة من أعظم قدرات الإنسان وأكثرها غموضاً. هي ما يربطنا بالماضي، ويشكّل هويتنا، ويعيننا على اتخاذ القرارات في الحاضر، بل ويوجه تصوراتنا للمستقبل. في كتابه “لماذا نتذكر: إطلاق عنان قوة الذاكرة للاحتفاظ بما يهم”، يأخذنا الدكتور تشاران رانجاناث، أستاذ علم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا، في رحلة علمية وفكرية لفهم الذاكرة لا بوصفها مستودعاً سلبياً للمعلومات، بل كأداة نشطة تختار، وتُشكّل، وتُعيد بناء تجاربنا باستمرار.
هذا الكتاب ليس دليلاً تقليدياً لتحسين مهارات الحفظ، بل هو محاولة لفهم كيفية عمل الذاكرة فعلياً، ولماذا نتذكر بعض الأشياء بينما ننسى أخرى. إنه يدمج بين البحث العلمي، والقصص الواقعية، والرؤى النفسية بطريقة تسلط الضوء على الوظائف العميقة للدماغ البشري.
أهمية السؤال: لماذا نتذكر؟
يسعى رانجاناث من البداية إلى إعادة صياغة السؤال التقليدي “كيف نحسّن ذاكرتنا؟” إلى “لماذا نتذكر أصلاً؟”. هذا التبديل في المنظور يكشف عن عمق السؤال ويبتعد بنا عن النظرة السطحية للذاكرة كأداة للحفظ، ويقربنا من فهمها كآلية تطورية تساعدنا في البقاء، والتكيف، وبناء المعنى.
فالذاكرة ليست مجرد “كاميرا” تسجل الأحداث، بل هي جهاز معقد يركز على ما يعتبره مهماً من أجل تحقيق هدف ما. هذا ما يفسر لماذا نتذكر بعض التفاصيل التافهة التي ارتبطت بلحظة عاطفية قوية، بينما ننسى معلومات “مهمة” قرأناها في كتاب مدرسي دون ارتباط عاطفي أو شخصي.
الذاكرة والهوية الشخصية
من أبرز الأفكار التي يناقشها رانجاناث هي العلاقة الوثيقة بين الذاكرة والهوية. نحن نكوّن أنفسنا من خلال ما نتذكره. قصصنا عن طفولتنا، تجاربنا في المدرسة، لحظات الانتصار والانكسار، كلها تشكل سلسلة من الذكريات التي نبني بها سرديتنا الذاتية.
لكن الذاكرة، كما يوضح رانجاناث، ليست سجلاً دقيقاً للأحداث، بل أشبه ما تكون بعمل فني يُعاد تشكيله في كل مرة نسترجعه. كل تذكر هو في الحقيقة إعادة بناء، يتم فيه تعديل وتلوين الحدث الماضي بالحاضر والانفعالات والظروف الجديدة. وهذا يطرح تساؤلاً عميقاً: إذا كانت ذكرياتنا مشوبة بالتحريف، فإلى أي حد يمكن الوثوق بها؟ ورغم هذا التحيّز، فإن الذاكرة تظل حاسمة في تشكيل إحساسنا بالذات.
الذاكرة كأداة تنبؤية
يربط رانجاناث بين الذاكرة والقدرة على التخطيط للمستقبل. فالدماغ لا يتذكر من أجل التسلية، بل لأنه يحتاج إلى تجارب الماضي للتنبؤ بما قد يحدث لاحقاً. القدرة على تصور المستقبل، وتوقع العواقب، واتخاذ قرارات صائبة تعتمد اعتماداً كبيراً على استدعاء تجارب سابقة مشابهة.
وهنا تصبح الذاكرة أداة للاستبصار، حيث يستخدم الدماغ خياله المدعوم بالتجربة السابقة لتقدير ما يجب فعله لاحقاً. وهذا المفهوم يتقاطع مع أبحاث أخرى في علم الأعصاب تظهر أن نفس الشبكات الدماغية التي تنشط أثناء التذكر، تنشط كذلك أثناء تخيل المستقبل.
ما الذي يجعلنا نتذكر؟
يستعرض رانجاناث عدداً من العوامل التي تؤثر على احتمالية تذكرنا لحدث معين:
- الانفعالات: الأحداث المرتبطة بمشاعر قوية – سواء إيجابية أو سلبية – تُحفر في الذاكرة بعمق أكبر.
- المعنى والسياق: عندما ترتبط المعلومات بمعنى شخصي أو تجربة مألوفة، يسهل تخزينها واسترجاعها.
- الاهتمام والتركيز: لا يمكن تذكر ما لم ننتبه له من الأساس. الدماغ لا يسجل الأحداث تلقائياً دون إدراك.
- التكرار والاسترجاع: كلما استرجعنا ذكرى، عززناها في الذاكرة طويلة الأمد، ولكننا أيضاً قد نغيرها في هذه العملية.
وهنا تظهر مفارقة: استرجاع الذاكرة يجعلها أقوى، ولكنه أيضاً يجعلها أكثر عرضة للتغيير.
أسطورة الذاكرة الخارقة
يحذر رانجاناث من الانبهار المفرط بمن يمتلكون “ذاكرة خارقة”، مثل من يستطيعون حفظ آلاف الأرقام أو الأحداث بدقة مذهلة. فهو يوضح أن هذه المهارات لا تمثل بالضرورة شكلاً أكثر تطوراً من الذاكرة، بل هي نتيجة لتدريبات وأساليب معينة – مثل الربط البصري والقصص الذهنية – ولا تعني أن أدمغتهم تعمل بطريقة مختلفة نوعياً.
الذاكرة الخارقة ليست الهدف، بل الأهم هو أن نستخدم ذاكرتنا في خدمة ما يهم فعلاً: العلاقات، القيم، والتجارب الحياتية.
التكنولوجيا والذاكرة
في عصر الهواتف الذكية ومحركات البحث، يسأل رانجاناث: هل صرنا نعتمد على الأجهزة بدلاً من ذاكرتنا؟ الجواب ليس نعم أو لا، بل إننا نشهد تحولاً في نوعية ما نتذكره. لم نعد نحفظ التواريخ أو الأسماء كما كنا من قبل، لكننا أصبحنا بارعين في تذكر أين نجد المعلومة.
هذا التغيير قد لا يكون سلبياً بالضرورة، إذا تعلمنا كيف نوازن بين الاعتماد على التكنولوجيا والاحتفاظ بالذكريات الشخصية المهمة التي لا يمكن استبدالها بأي محرك بحث.
دروس عملية من الكتاب
رغم أن الكتاب ليس دليلاً تقنياً لتحسين الذاكرة، فإنه يقدّم نصائح مستخلصة من العلم، مثل:
- ركّز على المعنى لا على الحفظ الأعمى.
- اربط المعلومات الجديدة بتجاربك أو مشاعرك.
- امنح انتباهاً كاملاً لما تريد أن تتذكره.
- استخدم التكرار النشط، لا مجرد التكرار الآلي.
- لا تثق بذاكرتك كلياً – دوّن ما يهم، وكن واعياً لتحيزاتك.
خاتمة: الذاكرة كبوصلة داخلية
يقدم كتاب لماذا نتذكر منظوراً جديداً وملهمًا عن الذاكرة، لا بوصفها مجرد أداة حفظ، بل كمرآة لهويتنا، وأداة تنبؤية، ونظام توجيه داخلي يساعدنا على اتخاذ قرارات أكثر وعياً. تشاران رانجاناث لا يقدّم حلولاً سحرية أو تقنيات مبسطة، بل يدعونا إلى فهم عميق لطبيعة الذاكرة ودورها في تشكيل تجاربنا كبشر.
إن فهم الذاكرة – بما فيها من تشويش وتحريف – ليس فقط مهماً لتحسين الأداء العقلي، بل هو خطوة نحو فهم الذات والعيش بوعي أكبر. وربما يكون السؤال الأهم في نهاية الكتاب ليس “كيف نتذكر أكثر؟”، بل “ما الذي يستحق أن نتذكره؟”.
لمعرفة المزيد: لماذا نتذكر؟: استكشاف أسرار الذاكرة من خلال كتاب تشاران رانجاناث