كتب

ما وراء الأقنعة: تحليل الألعاب النفسية في حياتنا اليومي

منذ فجر التاريخ، كان الإنسان كائنًا اجتماعيًا بطبيعته، يعيش وسط الجماعة ويتفاعل مع الآخرين عبر أنماط متباينة من التواصل، تتراوح بين التعاون والصراع، وبين الصدق والتمويه. ومع تطور العلوم الإنسانية في القرن العشرين، ظهرت محاولات متعددة لفهم طبيعة العلاقات البشرية، ليس من زاوية السلوك الظاهر فقط، بل من خلال التعمق في البنية النفسية التي تقود هذا السلوك.

في هذا السياق، برز كتاب “ألعاب يلعبها الناس: سيكولوجية العلاقات الإنسانية” (Games People Play) الذي وضعه الطبيب النفسي الكندي الأمريكي إريك بيرن (Eric Berne)، حيث أحدث ثورة فكرية في ميدان علم النفس التحليلي والعملي على حد سواء. هذا الكتاب، الذي صدر لأول مرة في ستينيات القرن الماضي وأعيد نشره وترجمته في طبعات متعددة وصولًا إلى طبعة حديثة عام 2022، ما زال يثير النقاش حول مفهوم “الألعاب النفسية” التي تشكل ملامح حياتنا اليومية.

المؤلف: إريك بيرن ومسيرته

ولد إريك بيرن عام 1910 في مونتريال بكندا، ودرس الطب قبل أن يتجه إلى التخصص في الطب النفسي. تتلمذ على يد كبار علماء التحليل النفسي أمثال إريك إريكسون، لكنه ما لبث أن طوّر مدرسة خاصة به عُرفت باسم “التحليل التفاعلي” (Transactional Analysis)، وهي مدرسة تسعى إلى فهم طبيعة التفاعلات الإنسانية من خلال ثلاث “حالات للأنا”:

  1. الأنا الوالدية (Parent Ego State): تمثل المعتقدات والقيم الموروثة والتوجيهية.
  2. الأنا البالغة (Adult Ego State): تمثل التفكير العقلاني المنطقي المرتبط بالواقع.
  3. الأنا الطفولية (Child Ego State): تمثل المشاعر والرغبات والاندفاعات التي ارتبطت بمرحلة الطفولة.

استطاع بيرن أن يقدّم رؤية عملية مبسطة، تدمج بين العمق النفسي واللغة السهلة القريبة من القارئ العادي. لذلك، لم يكن كتابه موجهًا فقط للأطباء أو المتخصصين، بل أيضًا لعامة الناس المهتمين بفهم أنفسهم والآخرين.

فكرة الكتاب الأساسية

ينطلق بيرن من ملاحظة محورية: الكثير من التفاعلات الإنسانية ليست عفوية أو مباشرة، بل تتخذ شكل “ألعاب” نفسية خفية. هذه الألعاب عبارة عن أنماط من التواصل المتكرر بين الأشخاص، يتضمنها نوع من الخداع أو الالتفاف أو تبادل الأدوار، بحيث تخدم احتياجات نفسية دفينة مثل الرغبة في السيطرة، أو البحث عن الاعتراف، أو التنفيس عن الغضب.

يؤكد بيرن أن هذه الألعاب ليست مجرد تسلية سطحية، بل هي في حقيقتها مسرحيات درامية تُمثّل على خشبة الحياة اليومية، حيث يؤدي كل فرد دورًا محددًا قد يكون واعيًا أو غير واعٍ. ومن هنا جاءت شهرة الكتاب بوصفه “دليلًا عمليًا لفهم العلاقات الإنسانية”.

مفهوم “الألعاب النفسية”

الألعاب النفسية عند بيرن لها خصائص مميزة:

  • تتكرر: فهي ليست حدثًا عابرًا بل نمطًا يتكرر في المواقف.
  • خفية: ما يُقال أو يُفعل في الظاهر يختلف عمّا يجري في الباطن.
  • تنتهي بمكسب ثانوي: يحصل أحد الأطراف أو كلاهما على نوع من المكافأة النفسية (ولو كانت سلبية مثل الشعور بالذنب أو المظلومية).

يضرب بيرن أمثلة عديدة على هذه الألعاب، مثل:

  • لعبة “انظر ماذا فعلت بي” حيث يبحث الفرد عن إثبات كونه ضحية.
  • لعبة “امسك الغشاش” حيث يسعى أحدهم إلى فضح الآخر لإثبات تفوقه الأخلاقي.
  • لعبة “لولاك” حيث يلقي الفرد مسؤولية فشله على الطرف الآخر.

تحليل العلاقات الإنسانية

يكشف بيرن من خلال كتابه أن العلاقات بين الناس يمكن أن تُفهم من خلال ثلاثة مستويات:

  1. المعاملات البسيطة: عندما يتفاعل الناس من موقع الأنا البالغة بشكل مباشر وواضح.
  2. المعاملات المتقاطعة: عندما يتحدث أحد من موقع الأنا البالغة بينما يرد الآخر من موقع الأنا الطفولية أو الوالدية، ما يؤدي إلى سوء الفهم.
  3. المعاملات الخفية (الألعاب): حيث يكون هناك رسالة ظاهرة معلنة، ورسالة خفية غير معلنة تقود الحوار.

ومن خلال هذا المنهج، يصبح بالإمكان تفسير الكثير من المواقف الاجتماعية: النقاشات الزوجية، الخلافات في العمل، الجدالات بين الأصدقاء، وحتى العلاقات بين الآباء والأبناء.

أمثلة من الألعاب النفسية

1. لعبة “نعم ولكن…”

في هذه اللعبة، يعرض أحد الأشخاص مشكلة ويطلب النصيحة، لكنه يرفض جميع الحلول المقترحة بإجابة “نعم، ولكن…”. الهدف الخفي هنا ليس حل المشكلة، بل إثبات أن مشكلته لا حل لها، والحصول على تعاطف الآخرين.

2. لعبة “لولاك”

يلعبها الزوج أو الزوجة غالبًا، حيث يلقون باللوم على الطرف الآخر في عدم تحقيق أحلامهم. هنا يكون المكسب النفسي هو التهرب من المسؤولية والشعور بالراحة في دور الضحية.

3. لعبة “امسك الغشاش”

تظهر في أماكن العمل والعلاقات الاجتماعية، حيث يسعى أحد الأطراف لاكتشاف خطأ أو هفوة عند الآخر، بهدف تعزيز سلطته أو تأكيد مكانته الأخلاقية.

4. لعبة “ركلة القطة”

تبدأ السلسلة عندما يتعرض شخص لضغط أو إهانة في العمل، فيعود للمنزل ويصب غضبه على أفراد أسرته، الذين بدورهم قد يوجهون انفعالاتهم على من هم أضعف. اللعبة هنا حلقة من نقل العدوان عبر مستويات مختلفة.

الأثر الاجتماعي والفلسفي للكتاب

لم يكن كتاب بيرن مجرد دراسة نفسية، بل فتح الباب أمام نقاش فلسفي حول طبيعة الحرية الإنسانية:

  • هل نحن أحرار في تواصلنا أم أننا أسرى “ألعاب” متوارثة؟
  • هل يمكننا أن نتحرر من هذه الأنماط ونبني علاقات قائمة على الصراحة والصدق؟

يجيب بيرن بأن الوعي هو الخطوة الأولى للتحرر: حينما ندرك أننا نلعب لعبة ما، نستطيع أن نوقفها أو نغير قواعدها. هذا المبدأ جعل الكتاب أحد المراجع الأساسية في برامج تطوير الذات والاستشارات الزوجية والإرشاد النفسي.

أثر الكتاب في الثقافة الحديثة

منذ صدوره، تُرجم الكتاب إلى أكثر من 30 لغة، وباع ملايين النسخ حول العالم. وأصبح مرجعًا ليس فقط في علم النفس، بل أيضًا في الإدارة والتعليم والتربية. حتى أن مصطلح “الألعاب النفسية” دخل الثقافة الشعبية وأصبح شائعًا في وصف المواقف الاجتماعية.

تقييم نقدي

رغم النجاح الكبير، وُجهت للكتاب بعض الانتقادات:

  • اعتبر بعض المحللين أن بيرن بسّط الأمور أكثر من اللازم، وأن العلاقات الإنسانية أكثر تعقيدًا من مجرد ألعاب.
  • آخرون رأوا أن الكتاب يميل إلى الطابع السلوكي العملي على حساب التحليل العميق للأسباب الجذرية للصراعات النفسية.

لكن مهما كان الجدل، يبقى الكتاب مساهمة كبرى في تقريب علم النفس من عامة الناس.

الدروس المستفادة

  1. الوعي بالذات هو الخطوة الأولى نحو علاقات صحية.
  2. الكثير من الخلافات ليست حول الموضوع الظاهر، بل حول “اللعبة” الخفية.
  3. إدراك حالات الأنا الثلاث يساعد على ضبط ردود الأفعال.
  4. لا يمكن للإنسان أن يتقدم إلا إذا تخلى عن دور الضحية وتحمّل مسؤوليته.

الخاتمة

يُعد كتاب “ألعاب يلعبها الناس” لإريك بيرن علامة فارقة في تاريخ علم النفس التطبيقي. فقد علّمنا أن وراء بساطة الحياة اليومية تكمن دراما نفسية معقدة، وأننا في كثير من الأحيان نؤدي أدوارًا غير واعية في مسرح الحياة.

وإذا كان بيرن قد كشف لنا طبيعة هذه “الألعاب”، فإنه في الوقت نفسه منحنا الأداة الأساسية لتغييرها: الوعي. فما أن ندرك أنماطنا المتكررة، حتى يصبح بمقدورنا أن نختار بوعي كيف نتفاعل مع الآخرين، بعيدًا عن الأقنعة والألعاب، نحو علاقات أكثر صدقًا ونقاءً.

 

لمعرفة المزيد: ما وراء الأقنعة: تحليل الألعاب النفسية في حياتنا اليومي

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى