سير

مكتب نانسين الدولي للاجئين: السيرة الإنسانية لأول منظمة أممية لحماية الكرامة البشرية

 المقدمة: عندما أصبح الأمل مؤسَّسة

في عالمٍ مزقته الحروب والنزاعات، كان اللاجئون دومًا أولى ضحاياه. أطفال يتامى، نساء مشرّدات، رجال فقدوا أوطانهم وحقوقهم في لحظة. وسط هذا الظلام، وُلِد بصيص نورٍ من ضمير الإنسانية، اتخذ له شكلًا مؤسسيًا لأول مرة في التاريخ: مكتب نانسين الدولي للاجئين.
تأسس عام 1921، ليكون أول كيان دولي يُعنى بحماية اللاجئين، بقيادة المستكشف النرويجي الحائز على جائزة نوبل، فريدجوف نانسين.
لم يكن هذا المكتب مجرد جهاز بيروقراطي، بل حركة ضمير عالمي، فتحت الباب لتاريخ طويل من العمل الأممي لصالح الكرامة والحقوق، ومهّدت الطريق أمام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين كما نعرفها اليوم.

 النشأة والتكوين

تعود جذور مكتب نانسين إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، التي خلّفت ملايين اللاجئين عديمي الجنسية، خاصة في أوروبا الشرقية والبلقان وروسيا.
عام 1921، أطلقت عصبة الأمم – وهي المنظمة الأم للأمم المتحدة – مبادرة عاجلة للتعامل مع أزمة اللاجئين، وعيّنت المستكشف والعالم النرويجي فريدجوف نانسين كمفوض سامٍ لشؤون اللاجئين.

تكوّن المكتب من مجموعة صغيرة من المختصين القانونيين والإنسانيين، عملوا تحت مظلة عصبة الأمم، وأداروا أولى عمليات التعريف القانوني باللاجئ، وتوفير وثائق السفر (المعروفة لاحقًا بـ “جواز نانسين”).

 التعليم وبداية التكوين المهني (نانسين المؤسس)

ولد فريدجوف نانسين في النرويج عام 1861، ودرس علم الحيوان وعلوم البحار، قبل أن يشتهر كمستكشف للقطب الشمالي. لاحقًا، برز كأستاذ جامعي ودبلوماسي، وتحوّل اهتمامه نحو قضايا اللاجئين بعد الحرب العالمية الأولى.
برزت شخصيته الإنسانية عندما قاد جهود إغاثة المجاعات في روسيا (1921)، وسرعان ما رأت عصبة الأمم فيه الرجل المناسب لتأسيس أول مكتب دولي يعني باللاجئين.

 الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

تم تأسيس مكتب نانسين رسميًا في جنيف عام 1921، وواجه منذ لحظاته الأولى تحديات هائلة:

  • انعدام التعريف القانوني الموحد للاجئين
  • غياب أي نظام دولي لتوفير وثائق سفر للاجئين
  • رفض كثير من الدول استقبال اللاجئين أو منحهم صفة قانونية

كانت أولى خطوات المكتب إصدار ما سُمّي بـ “جواز نانسين”، وهو وثيقة سفر رسمية اعترفت بها أكثر من 50 دولة، وأتاحت للاجئين التنقل وطلب اللجوء والعمل.

 الجدول الزمني لمسيرة المكتب:

السنة الحدث الرئيسي
1921 تأسيس مكتب نانسين وتعيينه مفوضًا ساميًا للاجئين
1922 إطلاق “جواز نانسين” للاجئين عديمي الجنسية
1926 حملة توطين اللاجئين الأرمن في سوريا ولبنان
1930 وفاة نانسين، واستمرار المكتب باسمه تخليدًا له
1938 إغلاق المكتب بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية
1954 تأسيس المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) استمرارًا لجهود نانسين

 الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

كان أبرز إنجازات مكتب نانسين:

  • توفير وثائق سفر لحوالي 450 ألف لاجئ
  • تنظيم إعادة توطين مئات الآلاف من الأرمن والروس والأوكرانيين
  • تأسيس أول نظام قانوني دولي للاجئين
  • إدخال مفهوم “اللاجئ” في القانون الدولي

مقارنة بالوضع السابق، حيث لم يكن للاجئ أي وضع قانوني معترف به، أصبح للاجئين صفة قانونية ساعدتهم على العمل، والتعليم، والحصول على خدمات أساسية.

 التكريمات والجوائز الكبرى

  • جائزة نوبل للسلام (1922): منحت لفريدجوف نانسين تكريمًا لجهوده في تأسيس المكتب ومساعدة ضحايا المجاعة واللجوء.
  • جائزة نوبل للسلام (1938): منحت لمكتب نانسين الدولي نفسه، بعد وفاته، تقديرًا لعمله الإنساني المتواصل.
  • إدراج اسمه في أرشيفات المفوضية الأممية UNHCR كمؤسس روحي للمؤسسة.
  • تخليد اسمه في “ميدالية نانسين” التي تُمنح سنويًا لأبطال العمل الإنساني.

 التحديات والمواقف الإنسانية

كان أكبر تحدٍ واجهه المكتب هو مقاومة الحكومات الأوروبية لفكرة استقبال لاجئين، لأسباب سياسية واقتصادية.
ورغم ذلك، أدار المكتب عمليات إنقاذ وتوطين ناجحة للاجئين الأرمن بعد الإبادة الجماعية، حيث تم توطين الآلاف في سوريا ولبنان.

من بين أبرز القصص:

“لاجئة أرمنية كانت تبيع الحلوى في بيروت وهي تحمل جواز نانسين… قالت: هذا الورق أنقذ حياتي.”

 الإرث والتأثير المستمر

رغم إغلاق المكتب رسميًا عام 1938، فقد ترك أثرًا لا يُمحى:

  • مهد الطريق لـ تأسيس المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) عام 1954.
  • ألهم فكرة “الحماية الدولية” كحق إنساني غير خاضع لسيادة الدول فقط.
  • أصبح “جواز نانسين” رمزًا تاريخيًا لأول اعتراف قانوني دولي باللاجئين.

وتواصل المفوضية اليوم هذا الإرث، حيث تُمنح “ميدالية نانسين” سنويًا للأشخاص والمؤسسات التي تقدم خدمات جليلة للاجئين حول العالم.

 الجانب الإنساني والشخصي

كان فريدجوف نانسين إنسانًا قبل أن يكون مسؤولًا. ورغم أنه لم يكن لاجئًا، فقد كرّس حياته لمناصرتهم. رفض الألقاب الدبلوماسية التقليدية، وفضّل أن يلقبوه بـ “صديق اللاجئين”.
قال ذات مرة:

“لن أقف مكتوف الأيدي وأنا أرى أناسًا يُحرمون من وطنهم مرتين: مرة عندما يهربون، ومرة عندما لا يجدون من يحتضنهم.”

 الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام

قصة مكتب نانسين الدولي للاجئين ليست فقط قصة تأسيس أول مؤسسة إنسانية دولية، بل قصة ميلاد الضمير العالمي.
لقد وضع نانسين أسسًا قانونية وإنسانية لما نعرفه اليوم باسم حماية اللاجئين، وعلّم العالم أن العمل الإنساني لا يحتاج إلى كثير من الموارد بقدر ما يحتاج إلى كثير من الشجاعة.

في زمن تتزايد فيه أعداد اللاجئين، ما أحوجنا لاستعادة روح نانسين:
روح تعترف بأن الإنسان، أينما كان، يستحق الكرامة، والحق في البداية من جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى